حضَّ ديننا الحنيف على تعلم العلم وتعليمه، ونشره بين الناس، وحذَّر من كتمانه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بلغ عنه آية أو حديثًا، وذلك لأن العلم هو الذي يهدي الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ»، رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: «نضَّرَ اللَّهُ امرأً سَمعَ منَّا حَديثًا فبلَّغَهُ، فرُبَّ مُبلَّغٍ أَحفَظُ مِن سامِعٍ»، رواه ابن ماجه. ولـمَّا أهبط الله آدم عليه السلام إلى الأرض علمه العلم، علمه أسماء كل شيء؛ لتستقيم حياته على هذه الأرض.
وقد كان من صفات اليهود كتمان بعض العلوم التي أنزلها الله عليهم وتحريفها، ومن ذلك كتمانهم صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي ذكرت في كتبهم، وكذلك كتمانهم أحكام الرجم التي جاءت في شريعتهم أيضًا، قال الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160]، قال الواحدي في هذه الآية: "نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم"، أي صفته صلى الله عليه وسلم، والبشارة التي جاءت به في كتبهم أيضًا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
قال الآلوسي في معنى الكتمان هو: "ترك إظهار الشيء قصدًا مع مساس الحاجة إليه، وتحقق الداعي إلى إظهاره، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه، واليهود -قاتلهم الله تعالى- ارتكبوا كلا الأمرين"، فقد ستروا آية الرجم بأيديهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحوا اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم، ومحو صفته أيضًا؛ فاستحقوا بذلك اللعن والطرد من رحمة الله.
والمقصود بالكتاب في قوله تعالى: {فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159]، أي الكتب التي أنزلها الله تعالى: كالتوراة والإنجيل وغيرها.
واللاعنون: قال ابن عَبَّاس: "كل شيء على وجه الأرض إلا الثقلين"، وقيل هم: الملائكة والمؤمنون، أو كل دواب الأرض، قال مجاهد تقول: "منعنا القطر بخطايا بني آدم".
فالآية تدل على أن الكاتمين أوصاف رسول الله صلى الله عليهم وسلم، المتلاعبين بأحكام الدين، والمحرفين للتوراة والإنجيل؛ يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويستوجبون لعنة اللاعنين؛ إلاّ من تاب عن كتمانه، وأصلح أمره.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160]، أي آمن برسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، وبيّن ما أنزله الله تعالى على أنبيائه، فلم يكتمه ولم يُخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته، يقول ابن كثير في هذه الآية: "وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه"، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة أن أرسل إليها نبي التوبة، فصارت التوبة تقبل من مثل هؤلاء، ولم تكن تقبل من مثلهم في الأمم السابقة.
وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود خاصة؛ إلا أنها تشمل كل من كتم شيئًا من الكتاب أو العلم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون، وسبق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ»، رواه أبو داود. وذلك الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية أيضًا، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا، ثم يتلو {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} [البقرة: 159] إلى قوله {الرحيم} [البقرة: 160]".
وذكر الإمام الرازي في تفسير هذه الآية فقال: "احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم؛ لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذًا للأجرة على أداء الواجب، وأنه غير جائز"، غير أن جمعًا من علماء المسلمين المتأخرين لـمَّا رأوا تهاون الناس في تعلم علوم الشريعة وتعليمها؛ أباحوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من العلم الشرعية، وذلك حتى لا تضيع علوم الشريعة والدين.