كانت مفاجأة يوم السابع من أكتوبر ثلاثة وعشرين، أو ما يسمى عملية "طوفان الأقصى" ـ التي أذهلت الصهاينة، وكسرت كبرياءهم، ومرغت سمعة الجيش الذي لا يقهر في الوحل، والتي طاش معها عقل القادة الصهاينة، فسعوا في رد الصفعة الهائلة، وترميم ما هدم من هالتهم الكاذبة، وسمعتهم المهدورة.
بمجرد انتهاء العلمية ـ وبعد الإفاقة من الصدمة ـ بدأت إسرائيل تلملم جراحها، وتحاول ستر فضيحتها، بالتجهيز لحرب مفتوحة ضد حماس والقسام وغزة سعيا لمحو غزة من على الأرض بعملية عسكرية غير مسبوقة كما أكد قائد حكومتهم "نتنياهو".
وكانت البداية بالحرب الإعلامية لنيل تعاطف العالم كله معهم، ولشحن العالم ضد حماس.. وكانت البداية ساخنة جدا ومذهلة أيضا في تأثيرها.
قطع رؤوس الأطفال
كان اللعب على وتر المساس بالطفولة هو الطريقة المثلى والأحدث لنيل استعطاف الغرب وشحن عواطفهم ضد حماس، ففي كذب صراح وتضليل إعلامي غير مسبوق، قامت مراسلة قناة "أي نيوز 24 الإسرائيلية" (نيكول زيديك) خلال تغطية مباشرة من كيبوتس كفار عزة قرب الحدود مع قطاع غزة، بتمرير خبر ملفق عن قيام مقاتلي حماس بقتل أربعين طفلا إسرائيليا وقطع رؤوسهم...
وسرعان ما تلقفت الخبر وكالات الأنباء في إسرائيل والعالم، وحملت عناوين الصحف الغربية ـ الموالية لإسرائيل بالطبع، والمتحكَّم فيها كليا بالمال اليهودي العالمي ـ بنشر الخبر في مانشيتات الصحف العالمية وعلى صفحات الجرائد، ومن بينها صحيفة "إندبندنت" البريطانية وقناة "سي إن إن" الأميركية، وقنوات أخرى عالمية لا تقل شهرة. وكذا نشر الخبر الكاذب على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، وكان أول من غرد به شخصان لهما ميول صهيونية، وحققت التغريدتان انتشارا كبيرا وتفاعلا واسعا على المنصة.
كما تلقفت أيضا حسابات مقربة من إسرائيل وأخرى يمينية أميركية المعلومة المضللة ـ رغم عدم وجود أي تأكيد رسمي إسرائيلي، أو أي دليل مادي على صحة الخبر، ومع ذلك انتشر انتشار النار في الهشيم، وامتلأت به شاشات وبرامج التفزة والمواقع الشرقية والغربية.
أثارت المعلومة ضجة رقمية هائلة على مستوى العالم، خاصة في العالم الغربي، وتعززت بقول الرئيس الأميركي "جو بايدن" خلال اجتماعه مع زعماء الطائفة اليهودية في البيت الأبيض "إنه لم يكن يعتقد أنه "سيرى صورا لإرهابيين وهم يقطعون رؤوس الأطفال". وخرج أيضا بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي يبكون أمام الشاشات على هذه المجازر الحماسية، والانتهاكات للطفولة ولحقوق الطفل والإنسان الإسرائيلي طبعا.
ومع نفي حماس نفيا قاطعا لهذه الادعاءات، ومع وجود مقاطع تؤكد على حسن معاملتهم للمدنيين والأطفال خلال عمليتهم المباركة والمذهلة، وكذلك مع عدم وجود أي صورة واحدة أو دليل واحد يثبت الواقعة ـ بدأ بعض الأشخاص وبعض الجهات المعنية بالتحقق من صحة ما ينشر بالبحث في الأمر، والتحقيق في مدى صحته، فتبين أنه خبر عار تماما عن الصحة، وأنه لا أساس له إطلاقا...
خبر ملفق مكذوب
وقد قام موقع "ذا غراي زون" الأميركي المستقل بعمل تحقيق للتؤكد من صحة هذه الادعاءات ومدى مصداقية الخبر تبين منه أن مصدره جندي إسرائيلي يُدعى "ديفيد بن صهيون"، وقد تم التعريف به خلال مقابلة أجرتها معه "آي 24" الإسرائيلية بصفته "زعيم استيطاني متطرف".
وصرح عدد من الصحفيين الذين كانوا في المكان نفسه مع الصحفية الإسرائيلية التي صدر عنها الخبر المضلل، إنهم لم يجدوا أي دليل على ذلك الادعاء الشنيع، رغم كونهم أجروا العديد من المقابلات مع الجنود والمسؤولين الإسرائيليين في عين المكان، وسجلوا إفادات أدلى بها شهود عيان لم يكن بينها أبدا مثل هذا الخبر الملفق.
وأكد صحفي إسرائيلي عدم رؤيته لأطفال قتلى، مضيفا أن كل ما سمعوه كان نقلا عن جنود إسرائيليين. كما أن متحدثا باسم الجيش الإسرائيلي هو الآخر لم يستطع تأكيد عملية قطع الرؤوس هذه، رغم انتشارها على نطاق واسع، وذلك في حديث له مع شبكة (CNN).
تراجع البيت الأبيض
وقد اضطر البيت الأبيض بعد التحقق من كذب الخبر إلى التراجع عن تصريحات الرئيس بايدن، ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله: إنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى أي صور أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل".
وأضاف المتحدث أن تصريحات بايدن بشأن الفظائع المزعومة استندت إلى مزاعم المتحدث باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وتقارير إعلامية إسرائيلية.
وأشار التحقيق الذي قام به موقع "ذا غراي زون" الأميركي المستقل إلى تراجع وسائل إعلام وصحفيين عن تقارير أولية بهذا الشأن من بينهم صحيفة "إندبندنت" البريطانية وقناة "سي إن إن" الأميركية، تماما كما تراجع عنها البيت الأبيض بعد أن تعذر إثبات هذا الادعاء الكاذب.
تراجع.. ولكن
رغم ثبوت زيف الخبر، ورغم تراجع بعض من تورطوا في نشره، إلا أنه قد استقر في مخيلة كثير من الغربيين والمصدقين للرواية الصهيونية والموالين لإسرائيل وغيرهم ممن عرف الخبر ولم يعرف كذبه، وهذا ما كانت تتمناه إسرائيل وحصل لها بالفعل، وكسبت تعاطفا كبيرا في الشارع الأوروبي والعالمي...
وهو ما يدلل على أن الصهاينة هم الصهاينة، وأنهم لا يهمهم الحقيقة بقدر ما يهمهم تحقيق مصالحهم.