الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) وفيه سؤال ، أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله : ( إن ) [ ص: 23 ] ( الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) وجوابه : أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم ، فأزال الله تعالى هذا الوهم ، بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة ؛ حتى يقوي قلوب المسلمين ، ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة ، وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين ، فحينئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ، ونظيره قوله تعالى : ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [الأنفال : 45] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) وفيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد بالذكر الصلاة ، يعني : صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة ، وقعودا حال اشتغالكم بالرمي ، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض ، فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة ، فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة .

                                                                                                                                                                                                                                            هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها ، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالا ، وهو أن يصير تقدير الآية : فإذا قضيتم الصلاة فصلوا ، وذلك بعيد ؛ لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا ) واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أولهما : بيان القصر وهو صلاة السفر .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : صلاة الخوف ، ثم إن قوله : ( فإذا اطمأننتم ) يحتمل نقيض الأمرين ، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافرا ، بل يصير مقيما ، وعلى هذا التقدير يكون المراد : فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة ، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب ، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف ، وعلى هذا التقدير يكون المراد : فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها ، ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيآتها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر ، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) . أي : فرضا موقتا ، والمراد بالكتاب ههنا : المكتوب ، كأنه قيل : مكتوبة موقوتة ، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعول ، والمصدر مذكر ، ومعنى الموقوت : أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة ، يقال : وقته ووقته مخففا ، وقرئ : ( وإذا الرسل وقتت ) [المرسلات : 11] بالتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية