الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أسباب الغلو في التعامل مع النصوص الشرعية

من أسباب الغلو في التعامل مع النصوص الشرعية

 من أسباب الغلو في التعامل مع النصوص الشرعية

أنزل الله تعالى القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، قال تعالى في ذلك: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وتكلم نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك اللسان العربي فكان أفصح العرب لسانًا، وأكثرهم بيانًا، وقد آتاه الله تعالى جوامع الكلم، قال صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم...،» رواه مسلم.

وما سبق وغيره من الآيات والأحاديث يدل على أن فهم كتاب الله تعالى وسنة نبينه صلى الله عليه وسلم لا بد له من معرفة باللغة العربية التي جاء بها هذا الدين، فهي المدخل لفهمه، والباب لولوج محرابه، وإلا كان الضلال والغلو، والتاريخ قديمًا وحديثًا شاهد على ذلك. قال ابن تيمية: "فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك، ويجعلون هذه الدلالة حقيقةً، وهذه مجازًا".
ومع أن فهم اللغة العربية مطلب لا بد منه لفهم مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنه مطلب غير كافٍ لذلك، بل إن الاقتصار عليه وحده سبب من أسباب الضلال والانحراف عن جادة الحق كما سنبيّن، ولا بد أن يضاف إليه معرفةُ مقصود الشارع من اللفظ العربي الذي نقرأه، بهذين الأمرين يُفهم مراد الله ورسوله، وإذا كانت لغة العرب تؤخذ من أفواه العرب، أو من كتب اللغة التي صنفها العلماء؛ فإن مقصود الشارع يُعرف بمعرفة سنته في الخطاب، وذلك يكون بجمع النصوص والخروج من مجملها بفهم مراد الشارع في أمر ما، قال ابن تيمية: "ينبغي أن يُقصد إذا ذُكر لفظ من القرآن والحديث؛ أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها الله ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث، وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده، وهي العادة المعروفة من كلامه".
ويُعرف مقصود الشارع أيضًا من سنته صلى الله عليه وسلم، وسنة أصحابه، وأقوال التابعين لهم بإحسان، وفي ذلك يقول الإمام أحمد في إجابته على من سأله عن الإيمان وأنه لا يجوز في تفسيره الاقتصار على ظاهر نصوص القرآن: "فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة؛ فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة، ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرها على العموم وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبرُ عن كتاب الله وما أراد، وأصحابُه أعلم بذلك منا لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك".
فمن أمثلة ذلك أن معنى الصلاة لا يمكن أن يعرف معناها من منطوق الأمر بها، إذ معناها في اللغة الدعاء، وإنما يُعرف مراد الله منها من خلال النصوص الكثيرة التي حضت عليها، ورغبت بها، ومن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم العملي لها أيضًا، ومثل هذا يُقال في الزكاة التي معناها في اللغة الزيادة والنماء، فإنما يُعرف مراد الله بها من مجموع النصوص الواردة فيها، المرغبة في إخراجها، والمحددة لأنصبتها، والقدر الذي يخرجه مَن وجبت عليه ونحو ذلك، وكذا يقال في الصيام والحج، وغيرها مما أمر به الشرع، بل إن العلم بمراد الله تعالى من جهة نصوص الشرع؛ يكفي ذلك عن كلام أهل اللغة والاستدلال به، يقول ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة، ولا غيرهم". وذلك كمعنى الإسلام والإيمان والنفاق وغيرها التي بيَّنها صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج بعده إلى الاستدلال بكلام أهل اللغة لبيانها.
إن الإعراض عن منهج الجمع بين النصوص، والرجوع إلى ما فهمه الصحابة والتابعون منها، والاقتصار في فهمها على الأخذ بظاهرها؛ يوقعُ المرء في وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي. كما أن من أعرض عن الجمع بين النصوص واكتفى بالحكم بظواهرها؛ تناقضت عليه السور، وتعارضت بين يديه الأدلة، وضرب القرآن بعضه ببعض، ومن أمثلة ذلك التعامل الحرفي مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» رواه البخاري. فالتعامل الحرفي مع الحديث يظهر أن مجرد قتال المسلم كفر، ولكن ليس هذا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعرف مراده بجمع قوله إلى أقواله الأخرى، وإلى ما جاء في كتاب الله تعالى وعندها يعرف المراد بكلمة الكفر، وقد جاء في كتاب الله تعالى ما يدل على أن المراد بذلك الكفر ليس المخرج من الملة بل ما دونه، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] قال البخاري: "فسماهم مؤمنين" أي أبقى الله عليهم اسم الإيمان مع أنهم اقتتلوا.
ولقد كان التعامل الحرفي مع النصوص دون الرجوع إلى نظائرها وتفسيراتها من سنة رسول الله صلى الله وعليه وسلم، وسنة أصحابه؛ كان هو السبب الأبرز الذي أوقع الخوارج فيما وقعوا فيه من الغلو والتكفير، ومن أبرز ذلك استدلالهم على إبطال التحكيم الذي رضي به عليٌّ رضي الله عنه فيما جرى بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فإن الخوارج قد استدلوا بظاهر قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وهذا الظاهر صحيح ولكن على غير ما أرادوا، ولذا قال لهم علي: "كلمة حق أريد بها باطل"، ثم بين لهم المنهج الذي نخرج به بالحكم وهو رد الآيات بعضها إلى بعض، ومن ذلك قوله تعالى في خلاف رجل وامرأة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، قال علي رضي الله عنه: "فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دمًا وحرمة من رجل وامرأة".
وعلى مثل المنهج الذي سار عليه الخوارج سار عليه غلاة العصر ممن كفر كثيرًا من المسلمين، واستباح دماءهم، فاستدلوا بحرفية النص دون النظر إلى مراد الشارع منه، ومن ذلك قولهم: "إن لفظة الكفر ما جاءت في الشريعة إلا لتدل على عكس الإيمان وانتفائه، وهي تعبر عن حكم عام، يشتمل على عدة أنواع منه، لكل نوع منها اسمُ علمٍ خاص به، كالفسق والظلم والخبث". وهذا التعميم منهم لا دليل عليه، بل دلت نصوص الكتاب والسنة على أن كلمة الكفر تطلق على الكفر المخرج من الملة وعلى غير المخرج من الملة، فمن ذلك قوله صلى الله لعيه وسلم في النساء أنهن أكثر أهل النار لأنهن يكفرن، فقيل أيكفرن بالله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط». فهذا الحديث يدل على الكفر قد يطلق على ما دون المخرج من الملة. قال ابن حجر: "قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانًا، كذلك المعاصي تسمى كفرًا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يُراد الكفر المخرج من الملة".
ومن تعامل الغلاة المعاصرين مع حرفية النص أيضًا؛ استدلالهم على تكفير العاصي بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]؛ فقالوا: احذف المكرر من الآيتين فيبقى المعنى: ومن لم يتب فهو كافر.
بما سبق نعلم خطورة التعامل الحرفي مع النص، دون الرجوع في بيان مراد الله منه إلى نصوص أخرى، أو إلى سيرته صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، وأن من أخطر آثار ذلك المنهج القاصر الوقوعَ في الغلو وتكفيرَ المسلمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة