الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فهم الخطاب شرط في قيام الحجة على المعيَّن

فهم الخطاب شرط في قيام الحجة على المعيَّن

 فهم الخطاب شرط في قيام الحجة على المعيَّن

يبقى المسلم معذورًا بجهله فيما خالف فيه الأحكام الشرعية عن جهل حتى تقوم عليه الحجة، ويرى العلماء أن الحجة لا تقوم على المعيَّن إلا إذا فهمها، وانتفت من أمامه الشبهات، أما إذا بلغته الحجة على وجه لا يفهما أو حال بينه وبين فهمها الفهم الصحيح شبهاتٌ؛ فإن ذلك يعني أن الحجة لم تقم عليه بعد، وأنه يبقى في دائرة الجهل الذي يعذر به المكلف. وقبل إيراد الأدلة على ما سبق من كلام العلماء الذين قرروا ذلك بناء على فهمهم لنصوص الكتاب والسنة؛ نزيد معنى فهمِ الحجة وانتفاءِ الشبهات بيانًا وتوضيحًا فنقول:

فهم الحجة: المراد بفهم الحجة بالنسبة للمعيَّن كما يقول سلطان العميري: "إدراك معنى الخطاب الشرعي ومعرفة دلالته على الحكم، وتصور المراد منه على وجه صحيح". وعليه فإن الحجة لا تقوم على المعيَّن فيما أخطأ فيه من الأحكام التكليفية حتى يكون قد وصله حكم ما أخطأ فيه على وجه يعرف معه أنَّ فعل هذا الأمر واجب، وأنَّ تركه حرام ونحو ذلك من الأحكام التكليفية الخمسة، سواء منها ما تعلق بأصول الدين أم بفروعه، وأما من لم يفهم خطاب الشرع على هذا الوجه فإنه لا يعدُّ عالمًا به، وبالتالي لا يعد مكلفًا به أيضًا.
ولا بد في هذا المقام من معرفة أن فهم الحجة يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يفهم الحجة بمجرد بلوغها له فيعرف به مراد الشارع منها، ومنهم من لا يعرف ذلك بمجرد بلوغها له، ولا بد له من توضيحات وشروح لفهمها، ولذا لا بد من مراعاة هذه الفوارق عند الحكم بقيام الحجة أو عدمه على معيَّن ما.
يقول ابن عثيمين في توضيح هذا المقام: "الذي نراه أن الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجه يفهمها، لكن نعرف أن أفهام الناس تختلف، من الناس من يفهم من هذا النص معنىً جلياً مثل الشمس، ومعنىً لا يحتمل عنده أي شك، ومن الناس من يفهم النص فهمًا أوليًا مع احتمال شك في قلبه، فالأول في قمة المعرفة والعلم، والثاني في أول العلم، والثاني قد قامت عليه الحجة لا شك؛ لأنه فهم منه ما يراد به، لكن ليس على الفهم التام الذي فهمته الطائفة الأولى كـ أبي بكر وعمر، وأما من بلغه النص ولكنه لم يعرف منه معنىً أصلًا، كرجل أعجمي بلغه النص باللغة العربية ولكن لا يدري ما معنى هذا النص، فهذا لم تقم عليه الحجة بلا شك، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4] أي: بعد البيان بهذا اللسان الذي يفهمونه يضل الله من يشاء فلا يقبل، ويهدي من يشاء فيقبل".
ويقول ابن تيمية معقبًا على قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]: "قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعًا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة ولو كان عربيًا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست لغته، وجب أن يبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس، ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك".
وأكد كثير من علماء الأصول على أن فهم الحجة شرط للتكليف بالخطاب، يقول الغزالي عن المكلف: "وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب"، ويقول ابن النجار: "الفهم شرط للتكليف"، وتوارد كلام الأصوليين على ذلك حتى حُكي عن بعضهم الإجماع على ذلك. يقول الماوردي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ; لأن التكليف وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة". ويفسر ابن أمير الحاج معنى فهم الخطاب بقوله: "شرط التكليف فهمه...، بأن يفهم المكلف الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال، لا بأن يصدق بأنه مكلف".
وبناء على ما سبق فإن المسلم الذي وقع في شيء من أعمال الشرك لأنه لم يفهم المراد من الخطاب الشرعي الذي ينهى عن تلك الأفعال؛ فإنه يعذر بذلك، ولا يحكم بكفره، ولا تترتب عليه أحكام الكفر. يقول ابن تيمية في ذلك: "وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ؛ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وقد دلَّت أدلة كثيرة على أن المعتبر في قيام الحجة هو فهمها وليس مجرد بلوغها، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فالله تعالى قد توعد من شاقق الرسول وخالف أمره بأن يعذبه، ولكنه سبحانه قد علق العذاب على تبين الهدى ومعرفته، لا على مجرد بلوغ الحجة أو بيانها. ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25].
إعذاره صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط، فهم قد بلغتهم الحجة بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، ولكنهم لم يفهموا أن ما طلبوه يناقض تلك الحجة ولذا عذرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعاملهم معاملة الجاهل، ولم يأمر بالدخول في الإسلام من جديد.
ومن تلك الأدلة أيضًا إعذاره صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم لـما أخطأ في فهم قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وظل يأكل حتى طلع النهار، فعدي رضي الله عنه قد بلغته الحجة، ولكنه لم يفهمها على الوجه الصحيح فكان ذلك عذرًا عذره به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وغيرها من الأدلة على كثير التي تدل على أن المناط المؤثر في قيام الحجة على العبد هو فهمها ومعرفة مراد الشارع منها، وبعد ذلك إن خالفها تترتب عليه أحكام قيام الحجة. والله أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة