السلام عليكم
شكري للقائمين على هذا الموقع العظيم.
منذ فترة داهمتني فكرة الحياة بعد الموت إما جنة وإما نار، وأخذت أنساق خلف هذه التخيلات إلى أن راودني وانتابني شعور السرمدية في الجنة.
أعلم أن هذه نغزات لا طائل من ورائها، وأعلم أنها مجرد أفكار لن تحدث طولاً في العمر ولا نقصاناً، ولا تقديم أجل ولا تأخير، أنا شخص متفائل بطبعي ومحبوب بين مجتمعي، ولله الحمد، والكل يثق بما أقول من ناحية الاستشارات النفسية أو التغلب على الظروف الصعبة، وهذه المرة انصب جل فكري على الحياة السرمدية في الجنة، وأصبح يفقدني لذة الحياة في بعض الأحيان.
رغم إيماني التام -ولله الحمد- ومحافظتي على الفروض منذ عرفت نفسي، ورغم يقيني التام بما بعد الموت، والعجيب أن الفكرة باغتتني بدون مقدمات!
نصيحتكم يا كرام.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ خالد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بارك الله فيك – أخي الفاضل – ورزقنا وإياك علماً نافعاً وعملاً صالحاً وإيماناً خالصاً ويقيناً صادقاً ورزقنا الثبات حتى الممات وصرف عنّا وساوس النفس والهوى والشيطان (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون).
لا ينبغي لك المبالغة في القلق من هذه الخواطر التي تنتابك أحياناً، لاسيما وأنك -بفضل الله عليك- شاب مؤمن ومحافظ على الفروض, وقد رزقك الله كمالاً في العقل حيث وأنك – كما ذكرت – موثوق بك في الاستشارات النفسية وفي معالجة الظروف الصعبة لدى من حولك, ولاسيما أنك تعلن أن هذه الوساوس النفسية مجرد أفكار لا علاقة لها بالواقع ولا العلم.
لهذا فإن الواجب عليك التغافل والإعراض والإهمال والتناسي وعدم الالتفات مطلقاً إلى هذه الخواطر, وفي المقابل فإن أهم ما ينبغي أن ينشغل به المسلم صاحب الدين والعقل مثلك الاهتمام بمسائل العلم التي تنبني عليها الأحكام, ومسائل الاعتقاد التي عليها أهل السنة والجماعة.
لا يخفاك – أخي العزيز – أن أعظم مزايا المسلم الإيمان بالغيب (الذين يؤمنون بالغيب)، ولاشك أن أمر الجنة والنار وسرمديتهما من أمور الغيب التي لا مدخل للعقل فيها.
قد اتفق العلماء على أبدية الجنّة والنعيم فيها، بدلالة نصوص الكتاب والسنة الدالة على الأبدية، (خالدين فيها أبداً)، والإقامة (الذي أحلنا دار المقامة من فضله)، قال الشيخ السعدي في تفسيره: أي الدار التي تدوم فيها الإقامة, والتي يرغب في المقام فيها لكثرة خيراتها وتوالي مسراتها وزوال كدوراتها.
كذلك قال تعالى: (إن الذين امنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً * خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً)، أي أنهم لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا بدلاً، كما هو معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره، وحسبنا ما ذكره تعالى عن أهل الجنة: (ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون * نزلاً من غفورٌ رحيم)، ولاشك أن نفوس أهل الجنة لا تشتهي الخروج منها، بل طول الأمد ونعيم الأبد فيها.
كما أن العقل لا يعارض ذلك, فالله سبحانه وتعالى كما وهو قادرٌ على خلق الخلق قادرٌ على إعادته بعد فنائه وزواله من باب أولى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) فكيف بمجرد بقائه على حاله (والله على كل شيءٍ قدير).
- وكذلك فإن أبدية النار أمرٌ متفقٌ عليه لدى العلماء للدلالات اللفظية والمعنوية السابقة في أبدية الجنة, وقد وصف القرآن الكريم مكث الكفّار في النار وعذابها بالأبد والخلد مما يدل على الاستمرار والدوام قال تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً)، وقال تعالى عن النار: (كلما خبت زدناهم سعيراً)، وعن أهل النار: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها)، (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق)، ومعلومٌ أن الحرق يدل على التكرار بلا خلاف.
كذلك من الأدلة، قال تعالى: (إنه من يأتِ ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى)، (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذابٌ غليظ)، (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً)، (إن عذابها كان غراماً) أي ملازماً، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذا من باب التقرير العلمي المتفق عليه عند علماء أهل السنة والجماعة في (أبدية الجنة والنار).
أما ما قد يرد من نصوص متشابهات, فإن الواجب وهو قاعدة الراسخين في العلم، (رد المتشابهات إلى المحكمات)، كما قال تعالى في بداية سورة آل عمران: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
كما ذكرتم – أخي العزيز - فإن المسألة من الجهة العملية لا تقدم ولا تؤخر، مما يسهّل عليك – حفظك الله وعافاك – طرد هذه الخواطر والوساوس, والاكتفاء بما انعقد عليه القول عند أهل العلم إجماعاً, كما أن المسائل المختلف فيها عند العلماء لا ينبغي أن تحدث عندنا إشكالاً نفسياً حيث يجب الأخذ بالقول المترجّح وغالبه ما عليه أكثر العلماء وجمهورهم, والمسائل العلمية الخلاف فيها سهل؛ إذ المهم الحرص على الثوابت والأصول الكلية العلمية والعملية, في الاعتقاد والأحكام. وقد ثبت في الحديث: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران, فإذا أخطأ فله أجر)، تشجيعاً من الشرع على البحث والاجتهاد وإعمال العقل على ضوء من نصوص وقواعد الشرع.
الثبات على أمر الله ودينه, ومجاهدة النفس على المحافظة على الواجبات، ومن أهمها إقامة الصلاة والمحافظة على الأذكار وقراءة القرآن، ولزوم الصحبة الصالحة الواعية والناصحة, ومجالسة أهل العلم والدعوة أهل الحكمة والبصيرة, الذين يسهمون في إزالة الشبهات, وإشعارك أن لحياتك معنى وهدفاً, ويعززون فيك جوانب الثقة بالنفس والإرادة.
تنمية الإيمان بطلب العلم النافع والعمل الصالح، وقراءة الكتب الإيمانية والعلمية والوعظية واستماع الخطب والمحاضرات، والبرامج العلمية النافعة والمفيدة، ولزوم الصحبة الطيبة، (ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه)، قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةٍ طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
حسن الظن بالله والثقة بالنفس وصدق الالتجاء إلى رب الأرض والسماء بخالص الدعاء، فهو القائل سبحانه: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)، وقل كما قال نبي الله أيوب عليه السلام: (إني مسني الشيطان بنصبٍ وعذاب)، (ربِ إني مسني الضُر وأنت أرحم الراحمين)، وأبشر بالفرج القريب من الله تعالى السميع المجيب سبحانه.
أسأل الله أن يفرج همك ويشرح صدرك ويربط على قلبك ويثبتك على دينك، ويصرف عنك وساوس النفس الأمّارة بالسوء والهوى والشيطان الرجيم، ويعافيك من كل سوء ومكروه, وأن يعينك على الثبات ويرزقك التوفيق والسداد، ويلهمك الخير والهدى والرشاد والصواب، وسعادة الدنيا والآخرة.