الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهلي يثقلون عليّ بالتكاليف والمهام حتى مللت، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم.

عمري 24 سنةً، مشكلتي في الحياة هي التواصل والتعامل مع الآخرين، حتى مع أهلي، وربما هم المشكلة الرئيسة.

أعرف أن جميع ما يحدث لي مترتب على كل ما حدث طيلة حياتي، لكن الوضع الحالي أصبح يتعبني، أنا لا أريد أي شيء، فقط أن أفعل ما يريح الجميع كي أرتاح، فهم يريدونني أن لا أغضب، ولا أن أشعر بالضيق إن أخذ أحد أشيائي، فقط يريدونني أن أصمت، حتى مع كلمات أمي الجارحة باستمرار!

أشعر بعدم الانتماء، وليس لدي مساحة، ولا خصوصية، ولا أي شيء في هذا البيت، أو هذه الحياة، يطلب مني الجميع عمل الكثير من الأمور: كالمساعدة، أو أن أحضر أشياء للجميع، والرفض خيار صعب، حتى لو كان هذا الطلب من أخي، فإذا رفضت غضبت علي أمي، فأصبحت أفعل أي شيء يطلب مني، بينما يجب علي تقبل رفض طلباتي.

أشعر بالإرهاق، ولا أستطيع الاستمرار على هذا الحال، فهل ما يحدث لي أمر طبيعي؟ وما الحل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ تقى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نرحب بك -أختنا الفاضلة- عبر استشارات إسلام ويب، ونشكر لك تواصلك معنا بهذا السؤال.

لو سمحت لي -أختي الفاضلة- أن أبدأ من حيث انتهيتِ، حيث تسألين: هل كل ما يحدث لك أمر طبيعي؟

في الحقيقةً هناك شيء طبيعي، وهناك أمرٌ غير طبيعي، مع الأسف أصبح سوء المعاملة، مع الكلام الجارح، وربما الإساءة البدنية، والضرب -مع الأسف- أصبح أو يكاد أن يكون هو الطبيعي في كثير من الأسر والحالات، ولكن الأمر غير الطبيعي هو أن تتحمّلي كل هذا، وتجدين صعوبةً في قول (لا) لكل مَا يُطلب منك، فأنت تُلبّين طلبات الآخرين، وإن كان على حسابك الشخصي.

هذا أمرٌ له جانب إيجابي: "فخيركم خيركم لأهله"، "ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"، وله جانب سلبي أيضًا؛ لأن إرضاء الناس غاية لا تُنال، فالحكمة تتطلب أن يُفرِّق بين الإنسان وبين ما يمكن أن يُقدّمه للآخرين، دون ضغطٍ كبيرٍ عليه، وبين ما لا يمكن أن يُقدّمه للآخرين، لأن هذا يُغيّر أولوياته في الحياة، وأنت لك حياتك أيضًا، كما أنك لا تعيشين للآخرين، وإنما تعيشين لربِّك، ولبناء نفسك، وتكوين حياتك في هذه الحياة.

واضحٌ أنك تجدين صعوبةً في رفض كل ما يُطلب منك، والرفض له عدة طُرق:

فأحيانًا لا بد من الرفض المباشر، وأحيانًا نحتاج إلى الرفض المبطّن، وأحيانًا نحتاج إلى التأجيل؛ بمعنى ألا تستجيبي للطلب الآن فورًا، وإنما بالوقت الذي يُناسبك، وهذا أمرٌ نسبيٌ طبعًا، على حسب ما يُطلب منك، أمَّا أن تكوني مُشاعةً لكل مَن يريدُ أن يطلب منك شيئًا، وتجدين صعوبةً في تنفيذ أولوياتك وبرامجك اليومية، فهذا أمرٌ غير طبيعي.

عليك -أختي الفاضلة- أن تبدئي بتغييره، نعم سيكون التغيير صعبًا عليك، وعلى تقبُّل الآخرين؛ لأنهم اعتادوا لزمنٍ طويلٍ على أن تُنفذي كل ما يطلبونه منك، فستكون هناك صعوبات في البداية، ولكن أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألَّا تصل، فابدئي الآن، وقوّي شخصيتك، وأذكّرك بأن عدم تنفيذ كل ما يُطلب منك لا يدلُّ على عدم محبتك لهذا الشخص أو لهذا الإنسان.

لذلك -أختي الفاضلة- فكّري في هذا الكلام، واعزمي على أن تعيشي حياتك وشخصيتك مع حُسن التواصل مع الآخرين؛ فالإنسان مخلوقٌ اجتماعي، لا بد أن يأخذ ويعطي مع الآخرين.

أدعو الله تعالى أن يشرح صدرك، وييسّر أمرك، ويلهمك صواب الرأي، والقول، والعمل.
____________________________________________

انتهت إجابة الدكتور/ مأمون مبيض -استشاري الطب النفسي-
وتليها إجابة الشيخ. الدكتور/ أحمد الفودعي -مستشار الشؤون الأسرية-.
____________________________________________

مرحبًا -ابنتنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب.

إضافةً على ما تفضّل به فضيلة الدكتور مأمون مبيض من التوجيهات التربوية النافعة، وبيان ما كان ينبغي أن يكون عليه حالك داخل الأسرة، ومعاملة الآخرين لك من أفراد الأسرة؛ فبالإضافة إلى تلك التوجيهات القيمة التي ينبغي أن تستفيدي منها في كيفية التعامل مع طلبات الآخرين، إلَّا أن هناك جانبًا لا بد من إعطائه حقَّه من العناية، والتركيز، والاهتمام، وهو مسألة حقوق الآخرين عليك ضمن أسرتك، ومن أفراد أسرتك، أوّلُهم الوالدان (الأب والأم) فإن حقَّهما عليكِ كبير، وقد أمر الله تعالى ببرِّهما، والإحسان إليهما في آياتٍ كثيرة من القرآن الكريم، وأمر بمصاحبتهما بالمعروف، وأمر بشكرهما مع شُكر الله تعالى، والآيات في هذا كثيرة معلومة.

والبِرُّ بالوالدين معناه: إدخال السرور على قلبيهما بكل شيءٍ مباح، ليس فيه معصية لله تعالى من قولٍ أو فعلٍ.

ولذلك يُقرّر العلماء أنه يجب على الولد أن يُطيع والديه في كلِّ مباحٍ ليس فيه ضرر على الولد؛ فخدمة الأم، وإعانتها على قضاء حاجات البيت داخلٌ في بِرّ الوالدة، ولا شك أن هذه الأعمال من أجلّ الطاعات، وأقرب القربات التي تُقرّبكِ إلى الله تعالى، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الوالد أوسطُ أبواب الجنّة) يعني: أفضل أبواب الجنّة، وأسهل الأبواب للدخول أن يكون الإنسان بَرًّا بوالديه، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: (رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)، والنصوص من القرآن والسُّنّة في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

فينبغي أن تستحضري هذه المسألة أولًا، وأن تعلمي أنكِ في كلِّ أمرٍ تُعينين فيه والدتك أو والدكِ، وتُطيعين أمرهما في شيءٍ يطلبانه منك، ولا ضرر عليكِ فيه؛ فإنك تفعلين طاعةً، وقُربةً، وعبادة تُقرِّبُك إلى الله، ويعودُ نفعها عليك في الدُّنيا، فإن العبادات من أعظم الأسباب للأرزاق في هذه الحياة، فالحياة الطيبة الهنيئة ما هي إلَّا جائزة من جوائز العمل الصالح، كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‌فَلَنُحْيِيَنَّهُ ‌حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}، فالعمل الصالح سبب لسعادة الدنيا وسببٌ أيضًا لسعادة الآخرة، فينبغي أن تستحضري هذه المعاني وألَّا تغيب عنك.

وأمَّا إخوانك: فكذلك لكِ عليهم حقوق، ولهم عليكِ حقوق، وقد جَرى العُرف بأن تقوم البنت في الأسرة بخدمة أخيها الكبير، وتوقيره لكِبره، وهذا من أدب الإسلام الذي أدبنا به، أن يُوقّر الصغير الكبير، وفي المقابل أن يرحم الكبير الصغير، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (ليس مِنَّا مَن لم يُوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا).

وهناك حقوق بلا شك متبادلة بين الأخوين، وأنت ستدركين هذه الحقوق عندما تحتاجين إلى أخيك في أمرٍ من أمور حياتك، ولو بعد تقدُّم سِنّك، وبعد زواجك، فإن أخاك هذا سيكون سندًا لك في هذه الحياة، فلا تستكثري شيئًا وإن كان غير لازم أو غير واجبٌ عليك، وننصحك بأن تُقدِّميه لأخيك عن طيبِ نفسٍ، وستجدين منهم -إن شاء الله- ما يُطيّب خاطرك من الشُّكر، والاعتراف بجميلك وفضلك.

وهذا كلُّه لا يعني أن تُكلّفي نفسك ما لا يلزمك شرعًا، أو ما فيه مشقَّة عليك، كما أرشدك إلى ذلك الدكتور مأمون، وفي كلامه معالجة للجانب الآخر، وهو ما نلاحظه من تعسُّفٍ في أحيانٍ كثيرة لحال البنت داخل الأسرة، ولكن لا ينبغي أن يطغى عليك هذا بحيث تشعرين بالضجر الدائم، وأنك مظلومة، ونحو ذلك؛ فإن الشيطان أيضًا حريصٌ في الوقت نفسه على أن تعيشي حياةً مُكدَّرةً، مملوءةً بالأحزان، والشعور بالظلم، ونحو ذلك من المشاعر السلبية التي يُكدّر بها حياتك، فقد قال الله تعالى عنه: {‌إِنَّمَا ‌النَّجْوى ‌مِنَ ‌الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. فالشيطان يحاول أن يُضخم لك بعض الأمور البسيطة، ويُكبّرها في نفسك حتى تعيشي هذا النوع من الأكدار.

نعود ونؤكد على موضوع التعامل مع الوالدة الكريمة برفق، وقد أوضحنا لك ما جرى به العرف في خدمة الإخوة؛ لذلك لا تغضبي من والدتك، فلا تفهمي من كلامها الجارح أنها تريد أن تضيق عليك أو تسيء، وتسلحي بالصبر مع الإحسان للوالدة، ويمكن مناقشتها بهدوء في الوقت المناسب عندما ترينها تتقبل منك في الأمور التي فيها مشقة عليك، وتطلبين منها الدعاء لك لا التلفظ عليك بكلام يجرح قلبك، وقدمي بين يدي ذلك هدية أو كلمة طيبة وثناء حسناً، وستجدين الوالدة تشاركك الهم وتتفهم مشكلتك بإذن الله تعالى.

فاستعيني بالله سبحانه وتعالى، واجمعي بين هذه التوجيهات الشرعية، وبين ما تفضّل به الدكتور مأمون من التوجيهات التربوية؛ لمعالجة الجانب الآخر، وبذلك ستصلين -بإذن الله تعالى- إلى ما ينفعك ويُفيدك.

نسأل الله تعالى أن يُقدّر لك الخير حيث كان، وأن يُعينك عليه، وييسّره لك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً