السؤال
سؤالي هو: إذا كان صحيح البخاري، ومسلم أصح كتب الحديث، فلم يرويان عن عثمان بن أبي شيبة الذي ثبت أنه يستهزئ بالقرآن، ويمزح به، وإسماعيل بن أبي أويس، الذي اعترف بلسانه أنه يضع الحديث إذا اختلف الناس في شيء فيما بينهم؟
وشكرا
سؤالي هو: إذا كان صحيح البخاري، ومسلم أصح كتب الحديث، فلم يرويان عن عثمان بن أبي شيبة الذي ثبت أنه يستهزئ بالقرآن، ويمزح به، وإسماعيل بن أبي أويس، الذي اعترف بلسانه أنه يضع الحديث إذا اختلف الناس في شيء فيما بينهم؟
وشكرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب ذلك يتضح من كلام الدكتور أبو بكر كافي في رسالته (منهج الإمام البخاري) حيث قال: من أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين:
أحدهما: ما احتجا به في الأصول. وثانيهما: من أخرجا له متابعة وشهادة واعتباراً ... فما في " الكتابين " بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة. ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات، ففيهم من في حفظه شيء وفي توثيقه تردد، فكل من خرج له في " الصحيحين " فقد قفز القنطرة فلا معدل عنه إلا ببرهان بين. نعم الصحيح مراتب، والثقات طبقات، فليس من وثق مطلقاً كمن تكلم فيه، وليس من تكلم في سوء حفظه واجتهاده في الطلب كمن ضعفوه، ولا من ضعفوه ورووا له كمن تركوه، ولا من تركوه كمن اتهموه وكذبوه ..
قال الحافظ الحازمي بعد أن قسم الرواة إلى خمس طبقات: "فإن قيل: إذا كان الأمر على ما مهدت، وأن الشيخين لم يودعا كتابيهما إلا ما صح، فما بالهما خرجا حديث جماعة تكلم فيهم، نحو فليح بن سليمان، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وإسماعيل بن أبي أويس عند البخاري، ومحمد بن إسحاق وذويه عند مسلم؟ قلت: أما إيداع البخاري ومسلم " كتابيهما " حديث نفر نسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يرد به حديثهم" ومعنى هذا أن الإمام البخاري يروي عن الضعفاء الذين لم يصلوا إلى حد الترك، ولكن لا يروي لهم إلا ما صح من حديثهم. وتعرف صحة حديثه بأمرين: الأول: موافقة هذا الراوي لغيره ومتابعتهم له. وهذا أمر يلاحظ في صحيح البخاري فإنه يكثر من ذكر المتابعات والشواهد. فإنه يروي الحديث ثم يقول: تابعه فلان وفلان إذا كان راوية ضعيفاً، أو كان الراوي ثقة لكن وقع فيه اختلاف في سنده ومتنه. كما سيأتي توضيحه في " منهج البخاري في تعليل الأحاديث ". الثاني: مراجعة أصول الراوي والنظر فيها. فإنه ولو كان ضعيفاً في حفظه فإنه يقبل حديثه الموجود في أصوله. إذا كان الراوي صدوقاً في الجملة. ومثال هذا أحاديث إسماعيل بن أبي أويس. وهذا المنهج يعرف بمنهج الانتقاء من أحاديث الضعفاء، أي أن حديث الضعيف لا يرد جملة ولا يقبل جملة. وإنما يقبل ما صح من حديثه فقط. كما أن الثقة لا تقبل أحاديثه مطلقاً فيقبل ما أصاب فيه ويرد ما أخطأ فيه. اهـ.
وقال في موضع آخر: ذهب أكثر العلماء والمحدثين إلى أن التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل روايته. .. لكن ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى قبول رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة ... ". أما بالنسبة لصنيع الإمام البخاري فليس هناك ما يمكن أن نستنتج منه حكماً أو رأياً ننسبه إليه. إلا أن صاحب كتاب " أسباب اختلاف المحدثين " يرى بأن احتجاج الشيخين بإسماعيل بن أبي أويس، وهو ممن اتهم بالكذب يشهد لما ذهب إليه النووي. ثم أورد أقوال بعض أئمة الجرح والتعديل فيه ... وقال الحافظ ابن حجر - بعد أن نقل الأقوال السابقة: " ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات. وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري. والله أعلم.
هذه جملة ما ارتكز عليه الأستاذ الفاضل ليرجح ما ذهب إليه النووي، وعليه ملاحظات:
الأولى: ينبغي التفريق بين من اتهم بالكذب وبين من اتصف فعلاً بالكذب، وإن كان كلاً من الوصفين من أوصاف الجرح. لكن لا يخفى أن الكذاب قد تحقق فيه الوصف فعلاً، أما المتهم بالكذب فلم يتحقق فيه هذا الوصف، فهل إسماعيل بن أبي أويس تحقق فيه الكذب أم لا؟
الثانية: ذكر الأستاذ أقوال الجارحين فقط لإسماعيل ولم يذكر أقوال المعدلين، أو على الأقل بعض أقوالهم، مما يوهم أن التهمة بالكذب قوية ومتحققة، وليس الأمر كذلك، فقد عدله جماعة من الأئمة النقاد.. وإليك أقوالهم ـ وذكر بعضها ـ فأنت ترى أن الأئمة لم يتفقوا على اتهامه، بل الظاهر من أمره أنه صدوق لا يتعمد الكذب، ولكن ضعيف الحفظ وكان يعتمد على حفظه في رواية الأحاديث فيقع في الأوهام، وينفرد عن سائر أصحابه بأشياء ليست عندهم. فمن نظر إلى صدقه في نفسه، واعتبر حديثه بحديث غيره، وتأكد من صحة أصوله، قوَّى من أمره، وروى له، واحتج به، كالبخاري، ومسلم، والدارمي وغيرهم من الحفاظ، بل روى مسلم عن رجل عنه، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ومن نظر إلى ضعف حفظه وكثرة غرائبه وهَّن من أمره، فالدارقطني قال فيه: "لا أختاره في الصحيح " ومنهم من ضعف عنده جانب الصدق، واستكثر تلك الغرائب واستنكرها رماه بالكذب كالنسائي وغيره.
وقد لخص الحافظ حاله في التقريب فقال: " صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه " . ... ثم إن إسماعيل هذا من شيوخ البخاري، أي ممن جالسهم وعرفهم وسبر أحاديثهم، وقد روى من أصوله؛ كما ذكر ذلك الحافظ في هدي الساري. اهـ.
ولفظ الحافظ في هدي الساري هو: روينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأن يعلم له على ما يحدث به ليحدث به، ويعرض عما سواه. وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا إن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه. اهـ.
وقال الذهبي في ترجمة إسماعيل بن أبي أويس في (تاريخ الإسلام): استقر الأمر على توثيقه وتجنب ما ينكر له. اهـ.
وأما عثمان بن أبي شيبة فقال عنه الذهبي في (ميزان الاعتدال): عثمان لا يحتاج إلى متابع، ولا ينكر له أن ينفرد بأحاديث لسعة ما روى وقد يغلط، وقد اعتمده الشيخان في صحيحيهما، وروى عنه أبو يعلى، والبغوي والناس، وقد سئل عنه أحمد فقال: ما علمت إلا خيرا، وأثنى عليه. وقال يحيى: ثقة مأمون. قلت: إلا أن عثمان كان لا يحفظ القرآن فيما قيل. اهـ.
وذكر له حكايات في تصحيف القرآن، منها أن قرأ: جعل السفينة [في رجل أخيه]. فقيل: إنما هو السقاية. فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم. ثم قال الذهبي: فكأنه كان صاحب دعابة، ولعله تاب وأناب. اهـ.
وعلى أية حال فننصح للأخ السائل أن يرجع إلى مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح صحيح البخاري (هدي الساري) ففي الفصل التاسع منها: سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتبا لهم على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا، وتمييز من أخرج له منهم في الأصول أو في المتابعات والاستشهادات، مفصلا لذلك جميعه.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني