السؤال
في عدة فتاوى مضت كانت هناك عدة أسئلة عن حكم استخدام خلِّ النبيذ مع الطعام, وكان ردكم - لأحاديث من السنة الشريفة - بتحريم ذلك على الأرجح عندكم, إذا كان قد عُمل الخلُّ صناعيًا, وليس ناتجًا طبيعيًا، وهذا يعني أن هذا الخلّ ليس خبيثًا في أصله، ويجوز استعماله إذا نتجَ بشكل طبيعي, وسؤالي هو: أنا أقيم في ألمانيا، ومعظم الدول في أوروبا تستخدم خلَّ النبيذ في الأطعمة في السوق - المايونيز، والكاتشب، وخلطات السلطة, والخردل, والصوص بأنواعه, وخلطة الكاري .. والكثير من الأطعمة تحتوي على هذا النوع من الخل - وعلى الأغلب أنه مصنوع بطريقة غير طبيعية, فما حكم استخدامها؟ مع العلم أنه لا توجد بدائل أخرى لنفس البضاعة لا تحتوي على هذه المادة؟ وأطلب منكم – تفضُّلًا - إعادة النظر مرة أخرى في الحكم لمن يعيش في تلك البلدان الأجنبية؛ لأني أعتقد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن تحويل الخمر إلى الخلّ، سدًّا للذريعة, وخوفًا من اتخاذ ذلك عذرًا بين التجار المسلمين للمتاجرة بالخمر, وشرائه؛ احتجاجًا بتحويله إلى الخل, وخوفًا من وقوع الفتنة بين الناس في ذلك، وإلا فلماذا لم يحرم استخدام الخل الذي نتج بشكل طبيعي من الخمر؟ وإذا كان - كما تعتقدون – نجسًا: فلماذا لم يقل عنه الرسول عليه السلام بأنه نجس بذاته, ولم يصرح فعليًا بذلك, بل اكتفى بقوله: لا؟ ومعناه: لا تفعلوا ذلك – فقط – أي: لا تجعلوا الخمر الذي عندكم خلًّا - جزاكم الله خيرًا -.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا بيان حكم الخلّ المتخذ من الخمر، وبيان الراجح عندنا فيه, وسبب الترجيح، وجواب بعض ما ذكره السائل، وراجع في ذلك الفتويين: 54401، 109628.
وقد رجح ابن تيمية قول الجمهور الذي سبق لنا ترجيحه، وعضد ذلك بعدة وجوه، فيها جواب لما استشكله السائل حيث قال - رحمه الله -: فإن قيل: هذا منسوخ؛ لأنه كان في أول الإسلام، فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية، وشق الظروف ليمتنعوا عنها, قيل: هذا غلط من وجوه:
ـ أحدها: أن أمر الله ورسوله لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرد بعد هذا نص ينسخه.
ـ الثاني: أن الخلفاء الراشدين بعد موته عملوا بهذا، كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا تأكلوا خلّ خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خلّ أهل الذمة" فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها، ويرخص في اشتراء خل الخمر من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يفسدون خمرهم، وإنما يتخلل بغير اختيارهم، وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال.
ـ الوجه الثالث: أن يقال: الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله؛ ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها, وأمروا بإراقتها فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك، فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم, يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب الخمر؛ حتى كان ينفي فيها؛ لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابًا لها من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ لا ريب أن أهله أقل اجتنابًا للمحارم، فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتفتح لغيرهم، وهم أقل تقوى منهم. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الخل إذا كان أصله خمرًا وتخلل هذا الخمر بفعل آدمي لا يجوز استعماله، والأصل في ذلك ما رواه مسلم .. أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا، قال: «أهرقها, قال: أفلا أجعلها خلًا؟ قال: لا » قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلًا غير جائز، ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به؛ لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وفي إراقته إضاعته، فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره, ولا ترده إلى المالية بحال، وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإليه ذهب الشافعي, وأحمد بن حنبل.
ثانيا: إذا تخللت الخمر بنفسها جاز استعمالها، والأصل في ذلك ما أخرجه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الإدام الخل» وعموم هذا الحديث مخصص بالحديث السابق في الأمر الأول، قال الإمام مالك - رحمه الله -: لا أحب لمسلم ورث خمرًا أن يحبسها يخللها، ولكن إن فسدت خمرًا حتى تصير خلًا لم أر بأكله بأسًا. انتهى.
ثالثا: إذا كان الخل ليس أصله الخمر فلا إشكال في حله؛ لأن كل عصير حمض يسمى خلًا.
والله أعلم.