الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مقالة: ( طريق السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم) مقالة ظاهرة البطلان، عارية عن البرهان، فهي مبنية على أن مذهب السلف هو تفويض معاني الأسماء والصفات، فجمعت هذه المقالة بين الكذب على السلف بنسبتهم إلى التفويض، وبين تجهيل السلف وانتقاصهم كذلك.
وننقل هنا كلاما نفيسا للإمام ابن تيمية يبين فيه سبب هذه المقالة، وما يلزم منها من اللوازم الباطلة.
يقول رحمه الله: لا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله، والمؤمنين به، حقيقة المعرفة المأمور بها من أن: «طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم» . فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضّلون طريقة الخلف على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن، والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]. وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص؛ للشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ـ وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنًى ـ بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى ـ وهي التي يسمونها طريقة السلف ـ وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف ـ وهي التي يسمونها طريقة الخلف ـ فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل، والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه. فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين، كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله. ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. كيف يكون هؤلاء المتأخرون ـ لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين ـ الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:
لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها ... وسَيَّرتُ طَرْفي بين تلك المعالِمِ
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ ... على ذقَنٍ أو قارعًا سِنَّ نادمِ
وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم؛ كقول بعض رؤسائهم: [لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأُ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]. وأقرأُ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] . اهـ بتصرف يسير.
ومن جهة عقلية، فهذه المقالة فيها تناقض ظاهر.
قال الدكتور يوسف الغفيص: هذه مقالة متناقضة؛ لأن السلامة نتيجة، والعلم مقدمة، بمعنى أن العلم يورث السلامة، فإذا قيل: إن مذهب السلف أسلم -أسلم عند الله، وأسلم اعتقاداً- لزم أن يكون مبنياً على علم صحيح. وإذا قيل: إن مذهب الخلف أعلم. لزم أن يكون أسلم؛ لأن من حقق العلم فقد أصاب السلامة في دينه، وأصاب مقصود الله ومراده سبحانه وتعالى. أما القول بأن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم؛ فإن هذا تناقض. وبهذا يتبين أن هذه المقالة متناقضة تماماً، فهو أعطى النتيجة للسلف وأعطى المقدمة للخلف، وإلا فإن مذهب السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، وما خالفه يمتنع أن يكون أسلم، ويمتنع أن يكون أعلم وأحكم؛ فمن هنا وصف المصنف - ابن تيمية -هذه المقالة بأنها مقالة بعض الأغبياء. اهـ.
وقد بينا بطلان مذهب التفويض، وخطأ نسبته إلى السلف في الفتاوى أرقام: 153129 55619 198335
ولا ريب في أن مذهب السلف هو إثبات صفات الله على حقيقتها من غير تأويل، ولا تكييف، ولا تفويض، وليس بينهم خلاف في هذا.
قال ابن تيمية: القَوْل الشَّامِل فِي جَمِيع هَذَا الْبَاب أَن يُوصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه، أَو وَصفه بِهِ رَسُوله، وَبِمَا وَصفه السَّابِقُونَ الْأَولونَ، لَا نتجاوز الْقُرْآن، والْحَدِيث. وَمذهب السّلف أَنهم يصفونَ الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه، وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف، وَلَا تَعْطِيل، وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل. اهـ.
وقال: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار، والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف؛ بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله.اهـ.
ونقل آثار السلف في إثبات الصفات حقيقة، وعدم تفويضها، وتأويلها يطول جدا، ويمكن الرجوع إلى كتب العقائد للوقوف على شيء من تلك الآثار المتواترة، خاصة كتابي العلو، والعرش للذهبي، وكتاب اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
وننقل منه هنا بعض الآثار لإفادة السائل:
قال أبو حنيفة: ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. وعرشه فوق سبع سماوات (قلت): فإن قال: إنه على العرش ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر ; لأنه أنكر أن يكون في السماء; لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان (لا يخلو منه مكان).
قال: وقيل لمالك: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله تعالى: (استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء).
وقال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرين نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وعن عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى - وقد صح عنه صحة قريبة من التواتر -أنه قيل له بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.
وقال الشافعي: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان، ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء.
وقال نعيم بن حماد الخزاعي: من شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيها.
وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلم موسى، وأن يكون على العرش. أرى أن يستتابوا فإن تابوا، وإلا ضربت أعناقهم.
وقال أبو بكر بن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته، وأنه بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب. فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، فمن ينكر رؤية الله تعالى في الآخرة، فهو عند المؤمنين شر من اليهود والنصارى، والمجوس، وليسوا بمؤمنين عند جميع المؤمنين.
وراجع للفائدة الفتاوى أرقام: 50216 107461 202258
وأما القول بأن الأشاعرة هم السواد الأعظم على مر التاريخ، فلا شك أنه خطأ.
ومما يجلي بُعد هذا القول: أن الأشاعرة يقررون عقائدهم بطرائق معقدة يعجز عنها العوام أصلا، فلا يمكن للعامي المنتسب للأشاعرة أن يقرر عقيدته على طريقة متكلمي الأشاعرة. فلا يمكن وصف عوام المسلمين - وإن انتسبوا للمدرسة الأشعرية - بأنهم على العقيدة الأشعرية.
ولو سلم جدلا بأن الأشاعرة هم أكثر الأمة، فليس هذا دليلا على صحة طريقتهم؛ فإن الكثرة ليست ميزانا لمعرفة الحق؛ قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ {الأنعام:116}.
ثم إن الإمام أبا الحسن الأشعري قد صنف كتاب الإبانة، ورجع فيه عن كثير مما كان عليه من تأويل الصفات، فهلا رجع أتباعه إلى قوله الذي آب إليه ؟
يقول الدكتور يوسف الغفيص: ومن قال: إن أكثر علماء المسلمين من الأشاعرة فقد أخطأ، فإن أئمة العلماء هم القرون الثلاثة الفاضلة، وهؤلاء ليس فيهم أشعري، بل هؤلاء وجدوا قبل أن يوجد المذهب الأشعري، فالصحابة رضي الله عنهم جميعهم أئمة سنة، والتابعون كذلك إلخ. إذا هذا خطأ في التقدير التاريخي، وخطأ في تقرير الحقائق الشرعية، فإن أئمة المسلمين وجمهور علمائهم هم أئمة السنة والجماعة. هذه جهة.
وجهة أخرى: أن السواد الأعظم من المسلمين هم على السنة والجماعة، فإن طرق المتكلمين كالأشاعرة -فضلا عن المعتزلة- في تحصيل عقائدهم طرق نظرية، وهي طرق علم الكلام، كتقرير دليل الأعراض، ودليل الاختصاص، ودليل التركيب إلى آخر هذه الطرق الجدلية النظرية، فإذا تكلموا في الصفات جاءوا بدليل الأعراض، وإذا تكلموا في القدر جاءوا بنظرية الكسب التي أعيا تفسيرها أئمة الكلام من الأشاعرة، وهذه الطرق لا يمكن عقلا ولا جدلا أن العامة من المسلمين يعرفونها ويفهمونها؛ فهي متعذرة الفهم على العامة. ولهذا اختلف علماء الأشاعرة أنفسهم في حكم إيمان العوام، فمنهم من يقول بفساد إيمان العامة -وهذا عليه بعض غلاتهم- ومنهم من يقول: إنهم تاركون لواجب في الإيمان، وهي الطرق التي اخترعوها، وابتدعوها، ودخلت عليهم من المعتزلة، ومنهم من يقول: إن إيمانهم صحيح، ولم يتركوا واجبا فيه، لكنه إيمان مجمل، ليس الإيمان التام المحقق، فالإيمان التام المحقق لا يحققه أو يعرفه إلا أرباب العلم الكلامي. وبما أن طرق المتكلمين، متعذرة التحقق عند العامة؛ إذا سواد المسلمين وعامتهم أهل سنة؛ لأن سواد المسلمين ليس لهم مراد إلا الإسلام، والسنة والجماعة هي الإسلام، وليس فيها زيادة عن الإسلام، حتى بعد حدوث الفرق والبدع، لم تزد السنة بزيادة هذه الفرق، بل السنة واحدة: السنة والجماعة، والسلفية هي الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: {ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3] وقال: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران:19]. هذا هو المنهج السني السلفي، وهو الإسلام الحق التام، المحقق ظاهرا وباطنا. وعليه: فسواد المسلمين وعامتهم أهل سنة، قد يتأثرون ببعض علماء بلدهم، فهذا التأثر يؤخذ بقدره، ويكون تقصيرا، ولا يلزم أن تغلب الحالة على العامة؛ نظرا لأن علماء البلد أشاعرة. اهـ.
وراجع للفائدة فيما يتعلق بالمذهب الأشعري الفتاوى أرقام: 38987 5719 179883
وانظر في بيان منزلة الإمام ابن تيمية والدفاع عنه الفتويين : 7022 45282
والله أعلم.