السؤال
أنا مسلم سلفي أحب السلف الصالح، ولكني أرى عديد المنتسبين للسلفية يكفرون بالخلف ويتركونهم، بل ويزدرونهم ويعادونهم، لا أدري أتعصبا أم لأسباب علميّة وموضوعية معتبرة شرعا، وإني وجدت في القرآن العظيم آيتين تدلان على ثبوت الصلاح لدى الخلف، وعلى عدم اتباع السلف اتباعا أعمى، وهما: (وقليل من الآخرين) بالواقعة و(واتبع سبيل من أناب إليّ) بلقمان، واتباع السبيل هو اتباع للمنهج أي: أنه يستوجب إعمال الفكر والعقل لاستنتاج المنهج والسبيل انطلاقا من العمل المجرد البسيط، أي: أنه اتباع مبصر وغير منحصر في السلف الصالح، بل ويكون للخلف الصالح كذلك بشرط التحقق من الإنابة لله تعالى التي هي قرينة على الإخلاص، هذا فهمي البسيط والمعتمد فقط على اللغة، فما تعقيب فضيلتكم عليه؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسلفية لا تقف على معنى محبة السلف الصالح، بل هي مع ذلك: اتباع لطريقتهم في فهم الدين وتطبيقه، والالتزام بمنهجهم في التعامل مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يمدح الخلف ويُصوَّبون في أمور الديانة بقدر إحسانهم في اتباع السلف، كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {التوبة:100}، قال الشوكاني في (فتح القدير): قوله: {بإحسان} قيد للتابعين، أي: والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة، وقد قال تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} وقال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وقال تعالى: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك، فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم ... وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها. اهـ.
ولا يخفى أن من جملة أصول المنهج السلفي: اتباع السنة وتقديمها على أقوال الرجال، ورد الخلاف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تمسك بهذا كان اتباعه للسلف عن علم وبصيرة، ولا يصح وصف اتباعه بالعمى، كما يقول السائل: (عدم اتباع السلف اتباعا أعمى)! قال الشنقيطي في (أضواء البيان) معلقا على الآية السابقة: فالمقلدون التقليد الأعمى ليسوا ممن اتبعوهم البتة، بل هم أعظم الناس مخالفة لهم، وأبعدهم عن اتباعهم، فأتبع الناس لمالك مثلا ابن وهب ونظراؤه، ممن يعرضون أقواله على الكتاب والسنة فيأخذون منها ما وافقهما دون غيره، وأتبع الناس لأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد مع كثرة مخالفتهما له، لأجل الدليل من كتاب أو سنة، وأتبع أصحاب أحمد بن حنبل له البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم، لتقديمهم الدليل على قوله وقول غيره، وهكذا. اهـ.
وهنا لابد من التفريق بين المنهج والسبيل، وبين سلوك منتسبيه! كما هو الحال في الإسلام نفسه، فكم من مسلم يسيء لدينه بسلوكه وأخلاقه، وكذلك من انتسب للسلف ولم يقم بمقتضى منهجهم فإنه يسيء لنفسه ولهم.
وأما وصف السائل الكريم لبعض المنتسبين للسلفية بأنهم: (يكفرون بالخلف ويتركونهم بل ويزدرونهم ويعادونهم) فلا ندري مقصده بذلك، وعلى أية حال فلا يذم من الخلف إلا مخالفتهم وانحرافهم في أمور دينهم عن منهج السلف في الفهم والتطبيق.
وأما قول الله عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ {الواقعة:14}، فليس فيه دليل على عدم اتباع السلف اتباعا أعمى، على حد تعبير السائل، وإنما فيه أن مرتبة المقربين لا يصل إليها إلا قليل من الآخرين، في حين يحظى بها ثلة من الأولين، وفي هذا مدح وتفضيل للأولين على الآخرين، قال السعدي: وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، والمقربون هم خواص الخلق. اهـ. فإذا كان المرء مخيرا بين اتباع إحدى الطائفتين: الأولين أو الآخرين، ففي هذه الآية ترغيب وحث على اتباع الأولين لا العكس، فما بالنا وهؤلاء القلة من الآخرين إنما نالوا مرتبة المقربين باتباعهم لسبيل الآولين، كما سبقت الإشارة إليه في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ {التوبة:100}.
وكذلك الحال في فهم السائل لقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ {لقمان:15}، فإن الأولين أحق بوصف الإنابة من الآخرين كمَّاً وكيفاً، قال ابن عطية في (المحرر الوجيز): قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} وصية لجميع العالم، كأن المأمور الإنسان، وأَنابَ معناه، مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. اهـ.
وقال البغوي في (معالم التنزيل): {واتبع سبيل من أناب إلي} أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا بكر الصديق. اهـ.
وقال الهراسي في (أحكام القرآن): قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) مثل قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ). اهـ.
فلا يستحق وصف الإنابة على التحقيق من الآخرين إلا من كان على سبيل الأولين، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ {البقرة:137}، وراجع للفائدة الفتويين التالية أرقامهما: 134119، 117313.
والله أعلم.