السؤال
ذكرتم في الفتوى رقم: 2647589 أن محبة ذات المخلوق ليست شركاً، ولم يقل بها أحد من أهل العلم، ولكن قال شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى-: (بل لا يجوز أن يُحب شيءٌ من الموجود لذاته؛ إلا هو سبحانه وبحمده؛ فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحبَّ لنفسه، وهذا من معاني إلهيته، و{لوكان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، فإن محبة الشيء لذاته شركٌ!! فلا يحب لذاته إلا الله؛ فإنَّ ذلك من خصائص إلهيته؛ فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله، ولما يحب لأجله؛ فمحبته فاسدة... وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعاً لمحبته؛ فإن من تمام حُبه، حبُ ما يحبه، وهو يحب الأنبياء والصالحين، ويحب الأعمال الصالحة؛ فحبها لله هو من تمام حبه، وأما الحب معه، فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله؛ فالمخلوق إذا أحب لله، كان حبه جاذباً إلى حب الله...فإنك إذا أحببت الشخص لله، كان الله هو المحبوب لذاته)
مجموع الفتاوى 10/607
فهل هنالك تعارض بين الفتوى، وبين قول شيخ الإسلام أم إنكم قصدتم أمرا آخر؟ لأني أصبحت في حيرة، وأخاف أن أقع في الشرك.
فما معنى أن يُحَب الشيء لذاته؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه ليس هنالك تعارض بين كلام شيخ الإسلام، وبين الفتوى رقم: 343621، فليس المراد بكلامه -رحمه الله تعالى- نفي مطلق المحبة لغير الله تعالى، وإنما أراد أن محبة الله تعالى هي أصل كل محبة، وأنه وحده سبحانه هو الذي يستحق أن يحب لذاته من جميع الوجوه، وأن محبة من عداه إنما هي تابعة لمحبته، وفرع عنها، وقد ذكر كلاما كثيرا في مشروعية محبة الخلق، ولكن لا يحَبون لذاتهم، وإنما يحَبون من أجل الله تعالى.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الجواب الصحيح: معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته، لا إله إلا هو. انتهى.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضا في "أمراض القلوب وشفاؤها": قد نطق الكتاب والسنة بمحبة العباد المؤمنين لله، كما في قوله -البقرة-: والذين آمنوا أشد حبا لله، وقوله -المائدة-: يحبهم ويحبونه، وقوله -التوبة-: أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار، بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله، كما في قوله: -التوبة- أحب إليكم من الله ورسوله، وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين. وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي، فقال: لا، يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي. وكذلك محبة صحابته وقرابته ؛كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار. وقال: لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر. وقال علي -رضي الله عنه-: إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق. وفي السنن أنه قال للعباس: والذي نفسي بيده؛ لا يدخلون الجنة حتى يحبونكم لله، ولقرابتي، يعني بني هاشم. وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: أحبوا الله؛ لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي لأجلي ...
ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصا، كما قال لمعاذ: والله إني لأحبك، وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها. وقال لفاطمة -رضي الله عنها-: ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحبي عائشة. وقال للحسن: اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه. وأمثال هذا كثير، فوصف نفسه بمحبة الأشخاص ....
وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار: أنه لا يجوز أن يكون غير الله محبوبا مرادا لذاته، كما لا يجوز أن يكون غير الله موجودا بذاته، بل لا رب إلا الله، ولا إله غيره، والإله هو المعبود الذي يستحق أن يحب لذاته، ويعظم لذاته كمال المحبة والتعظيم .... اهـ
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: فصل: أقسام المحبوب، والمحبوب قسمان: محبوب لنفسه، ومحبوب لغيره، والمحبوب لغيره، لا بد أن ينتهي إلى المحبوب لنفسه، دفعا للتسلسل المحال، وكل ما سوى المحبوب الحق، فهو محبوب لغيره، وليس شيء يحب لذاته إلا الله وحده، وكل ما سواه مما يحب فإنما محبته تبع لمحبة الرب تبارك وتعالى كمحبة ملائكته، وأنبيائه وأوليائه، فإنها تبع لمحبته سبحانه، وهي من لوازم محبته، فإن محبة المحبوب، توجب محبة ما يحبه، وهذا موضع يجب الاعتناء به، فإنه محل فرقان بين المحبة النافعة لغيره، والتي لا تنفع، بل قد تضر. انتهى.
وجاء في شرح فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد للشيخ الغنيمان: يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبة الله جل وعلا محبة عبادة وذل وخضوع، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: فهي محبة تابعة لمحبة الله؛ لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه، فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله، لأن المحبة مع الله شرك، كما قال جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ {البقرة:165} وكذلك قال جل وعلا في الآية الأخرى مخبراً عن أهل الجحيم، أنهم يعود بعضهم على بعض باللوم، ويلوم بعضهم بعضا وهم في النار: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {الشعراء:97ـ 98} يعني: يسوونهم برب العالمين في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله. اهـ.
وقد سبق الكلام عن المحبة وأنواعها، ومتى تكون شركا، في الفتاوى التالية أرقامها: 131443، 27513، 18165، 7386.
والله أعلم.