السؤال
كيف يُجاب على هذا: كيف يزعم المسلمون أن كتابهم محفوظ لا يأتيه الباطل، وإلى الآن هم ليسوا متفقين على الروايات الصحيحة للقرآن؛ مثل القراءات العشر النافعية. وماذا قالت امرأة العزيز: هِيتَ أو هِيتُ أو هِئتَ أو هَيتَ؟
اطلعت على فتوى في الموقع عن القراءات النافعية، وهناك تمت الإحالة لرابط لجنة المراجعة، ولكن رابط المقال لا يعمل.
جزاكم الله الخير.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبادئ ذي بدء ينبغي أن نفرق بين القرآن وبين القراءات؛ فالقرآن هو النص المنزل بالوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت بالتواتر ثبوتا قطعيا لا ريب فيه. وأما القراءات فهي روايات ووجوه متعلقة بطريقة الأداء، ومنها المتواتر، ومنها الصحيح، ومنها الضعيف. وهي بذلك تغاير القرآن من بعض الوجوه.
قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن: اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز. والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما. اهـ.
وتبعه على ذلك البناء الدمياطي في كتابه إتحاف فضلاء البشر، وزاد: وحفظ القرآن فرض كفاية على الأمة، ومعناه أن لا ينقطع عدد التواتر، فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، وكذا تعليمه أيضا فرض كفاية، وتعلم القراءات أيضا، وتعليمها. اهـ.
وهذه المغايرة بين القرآن والقراءات لا تعني الفصل التام بينهما، وإنما تعني إثبات فرق بينهما، فليست كل القراءات قرآنا، بل المتواترة منها فقط. وليس في كل ألفاظ القرآن قراءات، بل أكثر ألفاظه تأتي على وجه واحد في القراءة.
وقد نقل الدكتور عبد القيوم السندي في كتابه صفحات في علوم القراءات عن الزركشي بعد كلامه السابق، قوله: لست في هذا أنكر تداخل القرآن بالقراءات؛ إذ لا بُدَّ أن يكون الارتباط بينهما وثيقًا، غير أن الاختلاف على الرغم من هذا يظل موجودًا بينهما؛ بمعنى أن كلًّا منهما شيء يختلف عن الآخر لا يقوى التداخل بينهما على أن يجعلهما شيئًا واحدًا، فما القرآن إلا التركيب واللفظ. وما القراءات إلا اللفظ ونطقه، والفرق بين هذا وذاك واضح بيِّن. اهـ.
وإذا اتضح هذا، ظهر أن اختلاف القراء في كيفية أداء لفظة قرآنية، لا يعني أبدا اختلافهم في قرآنيتها، كما لا يعني وجود اضطراب في القرآن وماهيته.
وقد سبق لنا بيان أنه لا يوجد تناقض ولا تعارض بين القراءات، وإن اختلفت معانيها وألفاظها، وأن تعددها ليس من باب التحريف، مع بيان الحكمة من هذا التعدد، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 4256، 123333، 222757، 335257، 361819.
ومن جملة هذه القراءات الثابتة المتواترة اختلاف القراء في لفظة (هيت) في كلام امرأة العزيز. فمع تعدد طرق أدائها إلا إنها لا تتعارض ولا تتناقض.
وأما بخصوص مفردات العشر النافعية عن القراءات العشر الكبرى، فهي محصورة في خمسة مواضع، ثلاثة منها في الإظهار، وهي إظهار الدال المدغمة، في قوله تعالى: ﴿قد تبين الرشد﴾. والتاء المدغمة في قوله تعالى: ﴿أجيبتْ دعوتكما﴾. واللام الساكنة من (بل) و (قل) عند الراء في قوله تعالى: (بل رفعه الله) وقوله: (قل رب).
والرابع في حذف إحدى النونين للتخفيف في قوله تعالى: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ فقرأ ابن سعدان عن المسيبي: (أتمدوني).
والخامس: القراءة على الإخبار في قوله: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) ففي وجه لعبد الصمد: (آلهتنا خير) على الإخبار لفظا وإرادة الاستفهام معنى.
فهذه جملة المواضع المفردة في العشر النافعية، فهل ترى من تعارض بين هذه المفردات وبين القراءات العشر الكبرى؟! اللهم لا، بل كلها من جنس الخلاف بين القراءات السبعية، الذي يدور في عامته بين بعض الظواهر اللغوية من تقليل وإمالة، وإظهار وإدغام، وإخبار واستفهام، وإذا زادت شيًئا فهو من قبيل الأداء لا التركيب، يثري المعنى وينوعه، لا يضيقه أو يعارضه.
وثانيا: ينبغي التنبيه على أن من علم حجة على من لم يعلم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فإذا تواترت القراءة عند طائفة من المسلمين بشروطها المقررة فهي قرآن وإن لم تتواتر عند غيرهم. وأظهر مثال على ذلك: البسملة في سورة الفاتحة، فهي آية في أول السورة في بعض المصاحف، وليس كذلك في مصاحف أخرى، وارجع في ذلك الفتوى رقم: 191029.
وقال ابن الجزري في منجد المقرئين: ومما يحقق لك أن قراءة أهل كل بلد متواترة بالنسبة إليهم، أن الإمام الشافعي رضي الله عنه جعل البسملة من القرآن، مع أن روايته عن شيخه مالك تقتضي عدم كونها من القرآن؛ لأنه من أهل مكة، وهم يثبتون البسملة بين السورتين، ويعدونها من أول الفاتحة آية، وهو قرأ قراءة ابن كثير على إسماعيل القسط عن ابن كثير، فلم يعتمد على روايته عن مالك في عدم البسملة؛ لأنها آحاد، واعتمد على قراءة ابن كثير لأنها متواترة، وهذا لطيف فتأمله، فإنني كنت أجد في كتب أصحابنا يقولون: إن الشافعي رضي الله عنه روى حديث عدم البسملة عن مالك ولم يعول عليه. فدل على أنه ظهرت له عله فيه؛ وإلا لما ترك العمل به. اهـ.
ومن ذلك ما زاد على القراءات العشر المشهورة - كما في مفردات العشر النافعية – فقد تواترت عند المغاربة فأثبتوها، ولم تتواتر عن المشارقة فلم يثبتوها.
وقد ختم ابن الجزري كتابه السابق بفائدة جليلة، فقال: إنني آخر ليلة فرغت من هذا التأليف رأيت وقت الصبح، وأنا بين النائم واليقظان، كأني أتكلم مع شخص في تواتر العشر، وأن ما عداها غير متواتر، فألهمت في النوم أن لا أقطع بأن ما عدا العشر غير متواتر، فإن التواتر قد يكون عند قوم دون قوم، ولم أطلع على بلاد الهند وأقصى المشرق وغيره، فيحتمل أنها تكون عندهم متواترة؛ إذ لم يصل إلينا خبرهم، وألهمت أني ألحق ذلك في هذا الكتاب. وهذا عجيب. اهـ.
وتواتر هذه الطرق عند المغاربة، وعدم تواترها عند المشارقة؟ له عدة أسباب، ذكرها صاحب كتاب (هداية اللطيف إلى طرق نافع العشرة من كتاب التعريف) هي:
1- انشغال المشارقة بروايات وقراءات أخرى بخلاف قراءة نافع.
2- لقلة استقرار العلماء المشارقة في المغرب.
3- لعدم اعتماد إمام القراءات الداني – ت 444 هـ رحمه الله – هذه الطرق في كتابه التيسير في القراءات السبع ، الذي لاقى قبولا وشهرة في كل الأمصار والأقطار، وهو الذي اختصره الإمام الشاطبي – ت 590 هـ رحمه الله – في نظمه البارع "حرز الأماني ووجه التهاني" واشتهر بين الناس بالشاطبية.
4- أن الإمام ابن الجزري – ت 833 هـ رحمه الله – على سعة قراءته واطلاعه وكثرة أسفاره في طلب العلم ونشره، لم يحلق بجناحيه فوق بلاد المغرب ليتعرف على تلك الطرق ومن ثم لم يقرأ بها، ولو تم ذلك لنقلها في كتاب النشر، الذي جمع أصوله وهذبه من ما لا يقل عن خمسة وثلاثين كتابا في القراءات القرآنية. وكتاب التعريف أو ما يسمى بـ "مفردة نافع" ليس أقل منها شأنا، لا سيما وقد صنفه إمام القراء بلا منازع أبو عمرو الداني رحمه الله.
-5 أضف إلى ما تقدم قلة المقبلين على علم القراءات قديما وحديًثا ، وأقل منهم المتقنون المحررون للطرق، وقد كانوا قليلا فصاروا أقلَّ من القليل.
وبخصوص الفتوى المشار إليها في السؤال وهي برقم: 310657. فقد تم تصحيح الرابط المقصود.
والله أعلم.