الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يصح هذا الجواب؛ لأن الإيمان بالقدر لا يتم إلا باجتماع المراتب الأربعة: الإيمان بالعلم، وبالكتابة، وبالمشيئة، وبالخلق.
فكما علم الله تعالى أفعال العباد قبل أن يخلقهم، فإنه تعالى: كتبها عنده في اللحوح المحفوظ، وشاءها، وخلقها.
والجواب المذكور يتنافى مع مرتبة المشيئة، ولا يظهر فيه أثر الخلق، بل هو ينصّ على خلاف ذلك، كما تدل عليه هذه العبارة: "اختيارات العباد في علم الله قبل خلقها، لم تكن متأثرة بالخلق"! وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى: 347914، 148959، 136263.
وأما الجبر المذكور في عبارة شيخ الإسلام، فهو الجبر الذي لا ينفي إرادة العبد واختياره ومشيئته، وتأثير ذلك في وجود فعله.
ومعناه: أن اختيار العبد وفعله، لا يخرج عن خلق الله وقدره، بل هو من جملته.
ومقصود ذلك إثبات الأمرين جميعا: قَدَر الرب، وفِعْل العبد.
وقريب من هذا: إثبات التخيير والتسيير معًا، أو نفيهما معًا، فلكل ذلك وجه مقبول، والجمع بين ذلك أتى فيه الشرع بلفظ: التيسير، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له. متفق عليه. وراجع في ذلك ما أحيل عليه في الفتويين: 234691، 151961.
ولذلك قسَّم شيخ الإسلام ابن تيمية الجبر إلى نوعين؛ تبعًا لانقسام الفعل ذاته إلى نوعين: فمنه الفعل الاختياري، كالقيام، والقعود، والركوع، والسجود. ومنه الفعل الاضطراري، كحركة المحموم، والمفلوج، والمرتعش.
والجبر المنفي هو الجبر الذي يكون فعل العبد معه كالأفعال الاضطرارية، وأما الجبر المقبول فهو الجبر الذي يكون فعل العبد معه كالأفعال الاختيارية، التي لا يصح نفي اختيار العبد لها، وإن كانت من جملة قدر الله، قال شيخ الإسلام: الجبر المعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة، هو أن يكون الفعل صادرًا على الشيء من غير إرادة، ولا مشيئة، ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح ... ومثله في الأناسي حركة المحموم، والمفلوج، والمرتعش. فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان، وقعوده، وصلاته، وجهاده، وزناه، وسرقته، وبين ارتعاش المفلوج، وانتفاض المحموم.
ونعلم أن الأول قادر على الفعل، مريد له، مختار، وأن الثاني غير قادر عليه، ولا مريد له، ولا مختار.
والمحكي عن جهم وشيعته الجبرية أنهم زعموا: أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد. وهو قول ظاهر الفساد. وبما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال إلى: اختياري، واضطراري، واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي عليه، ولم يجئ في الشرائع، ولا في كلام حكيم أمر الأعمى بنقط المصحف، والمقعد بالاشتداد، أو المحموم بالسكون، وشبه ذلك ...
فإن قيل: هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي، أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله تعالى؟ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل، فهل يتأتى ترك الفعل معه؟ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير توسط الإرادة من العبد، وهذا جبر بتوسط الإرادة.
فنقول: الجبر المنفي هو الأول، كما فسرناه، وأما إثبات القسم الثاني، فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار، وأولي الألباب والأبصار، لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول، وفرارًا من تبادر الأفهام إليه، وربما سمي جبرًا إذا أمن من اللبس وعلم القصد. اهـ.
وبهذا يتضح مقصود شيخ الإسلام بهذه العبارة، وأنه لا يعني بها الجبر المصطلح عليه الذي يقول به الجبرية في مقابل القدرية؛ ولذلك قال شيخ الإسلام في هذا الموضع نفسه: كما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق، فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل. اهـ.
والجمع بين إثبات القدر، وبين إثبات مشيئة العبد واختياره وكسبه لفعله، لا تحتمله العقول، أو أكثرها؛ لما في القدر من سرٍّ لله تعالى، فيبقى للعقل حكم التسليم، والإيمان بالغيب، ورد المتشابه إلى المحكم.
ولذلك قال شيخ الإسلام في الموضع نفسه أيضًا: ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عز وجل عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن لله تعالى في قدره سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته ... وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق. اهـ.
والله أعلم.