السؤال
أنا أشعر بعدم الانتماء للبلد الذي أعيش فيه، وأشعر دائمًا أني غريب، فبلدي تتجه للعلمانية، وصرت أرى من يقول: إنه مؤمن بكتاب الله فقط، وصرت أرى من لا يهمّه ما يقول المسيؤون إلى جناب رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه ليس من شأنه، ومتدينو الأديان الأخرى يقلِّلون من شأننا، وهذا أصبح مقبولًا، وأصبح يفتي بلا علم كل من أراد الإفتاء، وأصبحت بلدي تحارب المنتقبات، وتظهر العنصرية تجاههنّ، وأمي منتقبة، وهي أستاذة بكلية الطب، وحاصلة على إجازة في القرآن، وأشعر دائمًا بالحزن حينما لا يسمحون لها بدخول مكان ما.
أصبحت بلدي في كل مكان تفضّل العلمانيين، ولا يريدون نقاشًا، وإنما ينعتون ما يخالف فكرهم بالتخلّف، وهذا يشعرني ببالغ الأسى أن هؤلاء الجهلة لهم صوتٌ عالٍ، وأن هذا البلد يفضّل الراقصات والمغنيين، وإن أردت أن أعيش بسلام منعزلًا، فدائمًا ما يغضبني رأي أحدهم وجهله، فهل يجوز لي أن أسافر إلى بلد إسلامي آخر؛ لأني لا أريد أن أفتن؟ وهل حديث: "لا هجرة بعد الفتح" ينطبق على حالي؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فيشرع للمسلم أن يهاجر من البلد المسلمة -إن كثرت فيها المعاصي، أو ظهرت فيها البدع- إلى بلد آخر يخلو من ذلك، أو يقلّ فيه ذلك؛ طلبًا للسلامة في دِينه، والإعانة على الخير والطاعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلمًا، وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا، وتارة منافقًا، وتارة برًّا تقيًّا، وتارة فاسقًا، وتارة فاجرًا شقيًّا، وهكذا المساكن بحسب سكانها. فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة. اهـ.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في عارضة الأحوذي: روى أشهب عن مالك: "لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق". فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد به كفر، فبلد فيه جَور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام، أو بلد فيه معاصٍ في حقوق الله، فهو أولى من بلد فيه معاصٍ في مظالم العباد، وهذا الأنموذج دليل على ما وراءه. اهـ.
وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح. فهو حديث متفق عليه، وليس معناه نفي مطلق الهجرة من أي بلد كان بعد فتح مكة، وإنما معناه: لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام.
وأما الهجرة من غيرها مما يعلو فيه الكفر، أو تظهر فيه المعاصي، فباقٍ إلى يوم القيامة، قال الطيبي في شرح المشكاة: المعنى: أن مفارقة الأوطان لله ورسوله التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميزة لأهلها من سائر الناس امتيازًا ظاهرًا، انقطعت، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدِينه من دار الكفر، أو مما لا يقام فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزيارة بيت الله، وحرم رسوله، والمسجد الأقصى، وغيرها، أو بسبب الجهاد في سبيل الله؛ باقية مدى الدهر. اهـ.
وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى: 51487، 111225، 318871.
والله أعلم.