السؤال
قال تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم). تفسير هذه الآية يشير إلى استحالة تحقيق العدل التام في الحب بين الزوجات. وهذا ينفي صحة ما يقوله بعض الرجال والفقهاء بأن الرجل يمكن أن يحب أكثر من امرأة في نفس الوقت، وأن الزواج الثاني لا يعني عدم حب الأولى. فالله تعالى نفى ذلك.
إذن، لماذا لم يبح الفقهاء للمرأة طلب الطلاق عند التعدد، وأجبروها على العيش مع رجل لا يحبها ويحب غيرها؟
ومن المعلوم أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان أكثر البشر مراعاةً لمشاعر الآخرين، فكيف كان يقول: إن أحبَّ زوجاته إليه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، مع أن هذا قد يحزن بقية زوجاته ويجرح مشاعرهن لعلمهن بأن زوجهن لا يحبهن بنفس القدر؟!
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد شرع الله -سبحانه العليم الحكيم- التعدد، وأوجب العدل بين الزوجات في المبيت والنفقة والمسكن، وأمر من لا يستطيع العدل ألا يزيد على واحدة، فقد قال الله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {النساء: 3}.
قال ابن كثير في تفسيره: فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة. اهـ.
وأما قول الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129]. فقد فسره أهل العلم بما يحصل من الميل القلبي لبعضهن أكثر من بعض، ولا يعني عدم الحب النهائي للبقية، ولا يلزم أن تكون الأولى أقل حبًا.
وقد كانت خديجة وعائشة من أوائل زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانتا أحب إليه مما سواهما، فقد أخرج أصحاب السنن وأحمد من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ومعنى قوله: لا تلمني فيما تملك ولا أملك: إنما يعني به الحب والمودة.
قال المازري في المعلم بفوائد مسلم: العدل بين الزوجات مأمور به قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كان له امرأتان يميل لِإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة شقه مائل".
وفي الترمذي: "وشقه ساقط". "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
وعند أبي داود يعني القلب، وعندي أن ذلك هو المشار إليه قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}، يعني في محبة القلب وميل الطبع الغير المكتسب. اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: قال الترمذي: يعني به الحب والمودة، كذلك فسره أهل العلم.
وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء}، قال: في الحب والجماع. وعند عبيدة بن عمرو السلماني مثله. انتهى.
وقال ابن كثير عند قوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [النساء:129]، أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني.
وقال ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم في عائشة، يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحبها أكثر من غيرها؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن... عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب. هذا لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح. اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: قوله تعالى: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن، وهو قوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية [4 - 129]. والجواب عن هذا: أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية. والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي، لأن هذا انفعال لا فعل، فليس تحت قدرة البشر، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات، فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية، كما يدل عليه قوله: فلا تميلوا كل الميل الآية، وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية. اهـ.
وبهذا يعلم أن مجرد المحبة والميل القلبي، لا مؤاخذة فيه، وليس فيه إضرار بالمرأة يدعوها لطلب الفراق.
قال البيضاوي في تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة عند شرحه للحديث: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، قال: يريد به ميل النفس، وزيادة المحبة لواحدة منهن، فإنه بحكم الطبع ومقتضى الشهوة، لا باختياره وقصده إلى الميز بينهن. اهـ.
والله أعلم.