الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى معلوم من الدين بالضرورة، ومن كان كفره كذلك يكفر من أنكر كفره أو شك فيه، كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 12718، 98395، 57445.
ويستثنى من ذلك من أكره إكراها معتبرا على الحكم بأن اليهود أو النصارى ليسوا بكفار، شأنه في ذلك شأن من أكره على كلمة الكفر، لقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ {النحل: 106}.
والمداهنة في مثل هذا الأمر ليست بعذر، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {القلم: 8ـ 9}.
قال السعدي: هذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: وَدُّوا ـ أي: المشركون لَوْ تُدْهِنُ أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه فَيُدْهِنُونَ، ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. اهـ.
والمداهنة في ما دون ذلك من أمور الاعتقاد والديانة: حرام، قال الغزالي في الإحياء: لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه. اهـ.
وقال في موضع آخر: قال القرطبي: في الحديث ـ يعني حديث: بئس ابن العشيرة ـ جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، ثم قال تبعا لعياض: والفرق بين المدارة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح عن حكم الصلح مع أهل البدع على عدم التكلم في آيات الصفات ومسائل التوحيد من باب المصلحة، والاستدلال على ذلك باتفاق النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود؟! فأجاب بقوله: هذا الاستدلال غير صحيح، لأن هذا الذي تذكر هو قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {القلم:9} المداهنة في الدين لا تجوز، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما صالح اليهود على ألا يعتدي أحد على أحد، لا على أن نرضى بدينهم أبداً ولا يمكن أن يرضى الرسول بدينهم أبداً، وهذا الذي تذكر يعني الرضا بما هم عليه من الباطل، فالمصالحة على هذا الوجه هي مداهنة في الواقع، والمداهنة محرمة، لا يجوز لأحد أن يداهن أحداً في دين الله، بل يجب بيان الحق مهما كان، لكن من الممكن إذا رأوا من المصلحة ألا يبدءوا بالإنكار قبل كل شيء، وأن يبدءوا أولاً بالشرح الصحيح. اهـ.
وأما بكاء النبي صلى الله عليه عند موت عمه أبي طالب، فلا نعرفه إلا من طريق الواقدي ـ وهو متروك الحديث ـ عند ابن سعد في الطبقات الكبرى، وعلى أية حال فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم عند موت عمه، لأنه مات على الكفر وقد كان يحب له الهداية ويحرص على ذلك، ثم لِما فقد بموته من النصرة والمواساة. وراجع الفتوى رقم: 25994.
وأما مسألة حب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: فلم تكن محبة دينية، بل كانت محبة جبلية للقرابة والإحسان، وهذه المحبة الطبيعية التي تمليها الجبلية البشرية والفطرة الإنسانية لا تحرم، إلا أنه يجب أن يصاحبها البغض لهم في الدين والبراءة من كفرهم، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 128403.
وقد سبق لنا بيان الفرق بين الحب في الله والمحبة الجبلية في الفتوى رقم: 36991.
ولمزيد الفائدة في ذلك يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 101781.
والله أعلم.