الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نشير إلى أن الخمر نجسة نجاسة عينية حسية عند جمهور العلماء، وهو الذي نفتي به.
وقال بعض أهل العلم: إن نجاستها معنوية لا حسية، فهي طاهرة وإن كانت محرمة، كالسم الذي هو نبات، وكالحشيش المسكر. وهو قول ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، والمزني من أصحاب الشافعي، وداود الظاهري، ورجحه الشوكاني والصنعاني. وهو قول معتبر، وله حظ من النظر.
ولذلك فإن النووي – وهو ممن يقول بقول الجمهور – قد قال في شرح المهذب بعد ذكر احتجاج الجمهور بقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] قال: لا يظهر من الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الرجس عند أهل اللغة القذر، ولا يلزم من ذلك النجاسة. وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة. وقول المصنف "ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم" لا دلالة فيه لوجهين، أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما كما ذكرنا قريبا. والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة، فلا يصح القياس؛ لأن المنع من الدم لكونه مستخبثا، والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كما صرحت به الآية الكريمة. اهـ.
ومع القول بالنجاسة العينية للخمر، يبقى السؤال عن الكحول المنتج بطرق صناعية بعيدا عن الخمر، هل هو نجس أم لا؟ وهذا أيضا من مواطن الخلاف. فمن أهل العلم من يفرق بين الكحول والخمر في الحكم، باعتبار:
- أن الكحول الخالص إنما هو مادة سمية لا تقصد بالشرب، ولا تسكر إلا بعد خلطها بالماء أو غيره.
- ولأن الكحول كمركب كيمائي موجود في كثير من الأطعمة المباحة بالإجماع، كالنباتات والثمار، والعجائن المخمرة.
- ولأن الكحول سائل طيار سريع التبخر، وبخاره طاهر حتى ولو قلنا بنجاسة أصله، كبخار أي نجاسة عند الجمهور.
وأقوى من اطلعنا على كلامه في هذا الشأن هو: العلامة محمد رشيد رضا، فله كلام مطول في عدة مواضع من مجلة المنار. ومما قاله عن الكحول: هو سائل قابل للاحتراق، سريع التبخُّر أو الطيران، يُستخرَج غالبًا من الخشب وجذور القصب وأليافه، وهو يوجد في جميع أنواع النباتات، ولا سيما الفاكهة، ويكثر جدًّا في قشر البرتقال والليمون، وفي كل ما يختمر من الأشياء كالعجين، ولا يُستخرج من الخمور لغلائها ورخصه، وهو أقوى المطهرات؛ فإنه يزيل النجاسات والأقذار التي تعسر إزالتها بالماء، وإنما يُستخرج لاستعماله في التطهير الطبي، وتحضير كثير من الأدوية، وحفظ بعض الأشياء من الفساد، وفي الأعطار والأصباغ والوقود والاستصباح وغير ذلك ... فهو ليس بشراب، ولا يمكن شربه؛ لأنه سُمٌّ قاتل. نعم، إن هذا الكحول أو الغول هو المادة المؤثرة في الخمور التي لولاها لم تكن مسكرة، وأنه إذا وُضع في شراب غير مسكر بنسبة مخصوصة يصير مسكرًا، ولكن هذا لا يقتضي أن يسمى هو خمرًا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرفًا، كما أن المادة المؤثرة في قهوة البن - التي يسميها الكيماويون (كافيين) ، والمادة المؤثرة في الشاي التي يسمونها (شايين) والمادة المؤثرة في التبغ (الدخان) التي يسمونها (نيكوتين) - إذا وُضعت في شراب آخر، أو في طعام، يصير له مثل تأثير القهوة والشاي والتبغ، ولا يسمى بأسمائها، وكل ما يترتب على ذلك من الحكم الشرعي أن الشراب - الذي يُوضَع فيه من الكحول ما يجعله مسكرًا - يحرم شربه لإسكاره، ويدخل عندنا في عموم الخمر، وإن وُضع له اسم آخر، خلافًا للحنفية، ومَنْ على رأيهم من اللغويين وغيرهم - فلا يعدونه منها لغةً ولا حُكمًا من كل وجه. اهـ. وقال أيضا: لو كانت النجاسة تابعة لمقدار الكحول لوجب أن تكون نجاسة المسكرات المقطرة المسماة بالروحية أغلظ من نجاسة خمر العنب، ثم ألا ترى أن الشافعية ذكروا قولاً بطهارة الخمر المحترمة، وهم أشد الفقهاء تدقيقًا وتشديدًا في مسائل النجاسة! ثم إن جعْل مادة الكحول هي النجسة بنفسها، والعلة لنجاسة ما توجد أو تكثر فيه - يقتضي الحكم بنجاسة العجين المختمر، ونقيع التمر والزبيب، ولا سيما إذا أتى عليه يومان أو ثلاثة، وكان ذلك في بلاد حارة كالحجاز، وهو كالعجين المختمر طاهر بالإجماع، وكذا كل ما يوجد فيه من فاكهة ونبات، ولوجب تطهير اليد والسِّكِّين إذا قُشر بها الليمون والبرتقال ... وخلاصة القول أن الكحول مادة طاهرة مطهرة، وركن من أركان الصيدلة والعلاج الطبي والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يُحصى من الأدوية ... اهـ.
وقال أيضا: قال بعض متفقهة هذا العصر بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول (الكحول أو السبرتو) من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات، وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير. اهـ.
وقد اعتمد الشيخ ابن عثيمين على بحث العلامة محمد رشيد رضا في الكحول، ونقل بعض كلامه، ثم قال: هذا كلام جيد متين. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في موضع آخر عن استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلطها ببعض الأدوية؟ فأجاب بقوله: استعمال الكحول في تعقيم الجروح، لا بأس به للحاجة لذلك، وقد قيل إن الكحول تذهب العقل بدون إسكار، فإن صح ذلك فليست خمرا، وإن لم يصح، وكانت تسكر فهي خمر، وشربها حرام بالنص والإجماع. وأما استعمالها في غير الشرب، فمحل نظر ... اهـ.
وقال الدكتور محمد علي البار في كتابه (الخمر بين الطب والفقه. ص 50 : 52):
إذا قلنا بنجاسة الخمر، فهل يعني ذلك أن الكحول نجس؟ - ثم تناول تعريف الخمر وحقيقته، وأن علة تحريمه هي الإسكار، سواء أكان جامدا، أو سائلا، أو غازيا (أبخرة وأدخنة)، وذكر نماذج لذلك ثم قال: - ورغم دخول جميع هذه المواد المذهبة للعقل المسببة للإدمان في الحرمة، إلا أن الفقهاء لم يتفقوا في حكم نجاستها، ولا في حد متعاطيها ... أما المسكرات من المائعات أي السوائل، فقد أدخلها الشافعية والحنابلة والمالكية في حكم الخمر في كل شيء بما فيه النجاسة. وأما الأحناف فلم يحرموا من هذه المواد إلا ما أسكر، وأما القليل الذي لا يسكر فلم يدخلوه في الحرمة، وبالتالي لم يدخلوه في حكم النجاسة، ونص الإمام أبو حنيفة على طهارة النبيذ ... وقد ذهب الأئمة أحمد ومالك وأبو حنيفة إلى طهارة بخار النجاسة. أما الشافعية فقالوا بنجاسة ذلك البخار. وبما أن الكحول سائل سرعان ما يتطاير، ويتحول إلى غاز، فإن هذا الغاز أو البخار يعتبر طاهرا، ولو كان أصله نجسا عند أحمد ومالك وأبي حنيفة. وإذا علمنا أن الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره مثل الخمير والخبز والكعك والبسكويت. بل إن الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فإننا نتيقن بذلك أن الكحول غير نجس، وأن علة تحريم الكحول هي الإسكار فحسب. وكذلك إذا علمنا أن الكحول المستخدم في الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبدا، وإنما يصنع بطرق كيماوية، منها تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الإيثيلي، أو الإيثانول كما يسمى علميا. وعلى ذلك فليس مصدر الكحول الخمر، ومن يقول بنجاسة عين الخمر، فإن الكحول المستخدم في هذه العطور والروائح ليس مستخرجا من الخمر، بل هو مصنوع بطريقة مغايرة ومن مواد ليست نجسة. ويبدو على هذا أن استعمال الكحول في الكولونيا والبارفان وغيرها استعمال مادة طاهرة، ولكن هذا لا ينفي مطلقا حرمة شربها. اهـ.
وعلى ذلك؛ فأقل ما يقال في نجاسة الكحول المستعمل في التعقيم ونحوه من الأغراض النافعة التي لا علاقة لها بذهاب العقل: إنه محل خلاف، والقول بطهارته قول وجيه معتبر، قال به كثير من أهل العلم. وهذا في الأحوال المعتادة.
وأما في الأحوال الاستثنائية التي تستدعي التخفيف والتيسير في الحكم، كالحال المذكور في السؤال، إذا لم يتوفر غير الكحول لهذه الأغراض، فلا يتسنى القول بمنعه.
ولذلك جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات ما نصه: يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلاً للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية. اهـ.
وانظر للفائدة الفتويين: 269512، 314302.
وتتأكد الحاجة للتخفيف في الحكم والأخذ بقول من يرى طهارة الكحول بأن استعمال الكحول في التعقيم لا يقتصر على الاستعمال الشخصي الذي يمكن للمرء أن يتجنبه باختياره، بل إن ذلك قد يصير لازما لمن يصلي في المسجد في كثير من البلدان، حيث تعقم المساجد نفسها، ولا يدخل الداخل إلى المسجد إلا من خلال بوابة للتعقيم. وعندئذ فلا يمكن للمصلي في المسجد أن يتجنب ذلك.
والله أعلم.