البحث الثالث
شرع من قبلنا
وفي ذلك مسألتان
( المسألة الأولى )
؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب : هل كان نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل البعثة متعبدا بشرع أم لا
فقيل : إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم ; لأنها أول الشرائع .
وقيل : بشريعة نوح ; لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا .
وقيل : بشريعة إبراهيم ; لقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم .
قال الواحدي : وهذا هو الصحيح .
قال ابن القشيري في المرشد : وعزى إلى . الشافعي
قال الأستاذ أبو منصور : وبه نقول ، وحكاه صاحب المصادر عن أكثر أصحاب أبي [ ص: 684 ] حنيفة ، وإليه أشار . أبو علي الجبائي
وقيل : كان متعبدا بشريعة موسى .
وقيل : بشريعة عيسى ; لأنه أقرب الأنبياء ; ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع ، وبه جزم الأستاذ كما حكاه عنه أبو إسحاق الإسفراييني الواحدي .
وقيل : كان على شرع من الشرائع ، ولا يقال : كان من أمة نبي من الأنبياء ، أو على شرعه .
قال ابن القشيري في المرشد : وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق .
وقيل : كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء ، إلا ما نسخ منها واندرس ، حكاه صاحب الملخص . وقيل : كان متعبدا بشرع ، ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله ، حكاه ابن القشيري .
وقيل : لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع ، حكاه في المنخول عن إجماع المعتزلة .
قال القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري : هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين ، قال جمهورهم : إن ذلك محال عقلا ; إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضا من نبوته .
وقال بعضهم : بل كان على شريعة العقل .
قال ابن القشيري وهذا باطل ; إذ ليس للعقل شريعة ، ورجح هذا المذهب ، أعني عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي ، وقال : هذا ما نرتضيه وننصره ; لأنه لو كان على دين لنقل ولذكره - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يظن به الكتمان .
وعارض ذلك وقال : لو لم يكن على دين أصلا لنقل ، فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي . إمام الحرمين
قال : فقد تعارض الأمران .
والوجه أن يقال : كانت العادة انخرقت في أمور الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - [ ص: 685 ] بانصراف همم الناس عن أمر دينه ، والبحث عنه ، ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما رتبه عليها .
وقيل : بالوقف ، وبه قال ، إمام الحرمين وابن القشيري ، وإلكيا ، ، والغزالي ، والآمدي ، واختاره والشريف المرتضى النووي في الروضة ، قالوا : إذ ليس فيه دلالة عقل ، ولا ثبت فيه نص ، ولا إجماع .
قال ابن القشيري في المرشد بعد حكاية الاختلاف في ذلك : وكل هذه أقوال متعارضة ، وليس فيها دلالة قاطعة ، والعقل يجوز ذلك ، لكن أين السمع فيه انتهى .
قال : هذه المسألة لا تظهر لها فائدة ، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ; ووافقه إمام الحرمين المازري ، والماوردي ، وغيرهما ، وهذا صحيح ، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة ، باعتبار هذه الأمة ، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها ، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته .
وأقرب هذه الأقوال ، قول من قال : إنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم - عليه السلام - فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كثير البحث عنها ، عاملا بما بلغ إليه منها ، كما يعرف ذلك من كتب السير ، وكما تفيده الآيات القرآنية ، من أمره - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد البعثة باتباع تلك الملة ، فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها ، فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها .