الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثامنة

          اختلفوا في مسمى الصحابي : فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ، ولا روى عنه ، ولا طالت مدة صحبته .

          وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - واختص به اختصاص المصحوب ، وطالت مدة صحبته ، وإن لم يرو عنه .

          وذهب عمرو بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنه العلم .

          والخلاف في هذه المسألة ، وإن كان آيلا إلى النزاع في الإطلاق اللفظي ، فالأشبه إنما هو الأول ، ويدل على ذلك ثلاثة أمور .

          الأول : أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة ، والصحبة تعم القليل والكثير ، ومنه يقال صحبته ساعة ، وصحبته يوما وشهرا ، وأكثر من ذلك ، كما يقال : فلان كلمني وحدثني وزارني ، وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة .

          الثاني : أنه لو حلف أنه لا يصحب فلانا في السفر ، أو ليصحبنه ، فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة .

          الثالث : أنه لو قال قائل : صحبت فلانا ، فيصح أن يقال : صحبته ساعة أو يوما أو أكثر من ذلك ، وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه ، أو لا ، ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ، ولم تكن مختصة بحالة منها ، لما احتيج إلى الاستفهام [1] .

          [ ص: 93 ] فإن قيل : إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ، ومنه يقال : أصحاب القرية ، وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول ، وأصحاب الجنة ، للملازمين لذلك ، وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم .

          ويدل على ذلك أنه يصح أن يقال : فلان لم يصحب فلانا ، لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله ، والأصل في النفي أن يكون محمولا على حقيقته ، بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه ، ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي ، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة [2] ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلا ولم يأخذ عنهما ، أنه صاحب لهما .

          والجواب عن الشبهة الأولى : أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ، ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره ، بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة ، نظرا إلى ما وقع به الاشتراك نفيا للتجوز ، والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان لأن الصاحب في أصل الوضع ، وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت ، غير أنه في عرف الاستعمال لمن طالت صحبته ، فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق ، وإن أريد نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح .

          وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضا .

          وإذا عرف ذلك ، فلو قال من عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا صحابي مع إسلامه وعدالته ، فالظاهر صدقه .

          ويحتمل أن لا يصدق في ذلك ، لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه ، كما لو قال : أنا عدل ، أو شهد لنفسه بحق .

          هذا ما أردناه من الشروط المعتبرة .

          [ ص: 94 ] وأما الشروط التي ظن أنها شروط ، وليست كذلك .

          فشروط : منها أنه ليس من شرط قبول الخبر العدد ، بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد ، خلافا للجبائي ، فإنه قال : لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر ، أو موافقة ظاهرا ، وأن يكون منتشرا فيما بين الصحابة ، أو عمل به بعض الصحابة ، ونقل عنه أيضا أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة .

          والوجه في الاحتجاج والانفصال ما سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد .

          وأيضا فليس من شرطه الذكورة لما اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء ، كما سبق بيانه ، ولا البصر ، بل يجوز قبول رواية الضرير إذا كان حافظا لما يسمعه وله آلة أدائه .

          ولهذا كانت الصحابة تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها ، مع أنهم لا يرون شخصها : ولا عدم القرابة ، بل تجوز رواية الولد ، وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ، ولا عدم العداوة ؛ لأن حكم الرواية عام ، فلا يختص بواحد معين ، حتى تكون العداوة مؤثرة فيه ، ولا الحرية ، بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة .

          ولا يشترط أيضا في الراوي أن يكون مكثرا من سماع الأحاديث مشهور النسب ، لاتفاق الصحابة على قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه ، إذا كان مشتملا على الشرائط المعتبرة .

          ولا يشترط أيضا أن يكون فقيها عالما بالعربية وبمعنى الخبر .

          وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافا لأبي حنيفة فيما يخالف القياس ، لقوله - صلى الله عليه وسلم : " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " إلى قوله : " فرب حامل فقه ليس بفقيه " دعا له وأقره على الرواية : ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ، ولأن الصحابة سمعوا أخبار آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ، ولأن الاعتماد على خبر النبي - صلى الله عليه وسلم .

          والظاهر من الراوي إذا كان عدلا متدينا أنه لا يروي إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية