الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 149 ] النوع الثاني : مذهب الصحابي وفيه مسألتان :

          المسألة الأولى

          اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماما كان أو حاكما أو مفتيا .

          واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين :

          فذهبت الأشاعرة ، والمعتزلة ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، والكرخي : إلى أنه ليس بحجة .

          وذهب مالك بن أنس والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة ، والشافعي في قول له ، وأحمد بن حنبل في رواية له : إلى أنه حجة مقدمة على القياس .

          وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا .

          وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما .

          والمختار أنه ليس بحجة مطلقا ، وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك .

          الحجة الأولى : قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول ، فالرد إلى مذهب الصحابي يكون تركا للواجب وهو ممتنع .

          ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله تعالى : ( فردوه إلى الله والرسول ) يدل على الوجوب على ما سبق تقريره [1] ، فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركا للواجب ، وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد ، وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبينا في الكتاب أو السنة ، وأما بتقدير أن لا يكون مبينا فيهما فلا .

          [ ص: 150 ] ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة .

          الحجة الثانية : قالوا : أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ، ولو كان مذهب الصحابي حجة لما كان كذلك ، وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال .

          ولقائل أن يقول : الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجة على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم ، لا مجتهدة الصحابة [2] ، فلم يكن الإجماع دليلا على محل النزاع .

          الحجة الثالثة : أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه ، فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين .

          ولقائل أن يقول : لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله ، امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام : ( خير القرون القرن الذي أنا فيه ) [3] ، وقال عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " [4] ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم .

          [ ص: 151 ] الحجة الرابعة : أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل ، وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر ، كما في مسائل الجد مع الأخوة ، وقوله " أنت علي حرام " كما سبق تعريفه ، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفة متناقضة ، ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض .

          ولقائل أن يقول : اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججا في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، ويكون العمل بالواحد منها متوقفا على الترجيح ، ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير ، كما عرف فيما تقدم .

          [5] الحجة الخامسة : أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ ، فلا يقدم على القياس كالتابعي .

          ولقائل أن يقول : اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ، ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي ; لما بيناه من الفرق بينهما .

          [6] [ ص: 152 ] الحجة السادسة : أن التابعي متمكن من تحصيل الحكم بطريقه ، فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول .

          ولقائل أن يقول : اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليدا له إن لو لم يكن قوله حجة متبعة ، وهو محل النزاع ، وخرج عليه الأصول ، فإن القطع واليقين معتبر فيها ، ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة ، فكان اتباعه في مذهبه تقليدا من غير دليل ، وذلك لا يجوز .

          [7] والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) أوجب الاعتبار [8] وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجة ، وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس ، فإن قيل : لا نسلم دلالة ذلك على وجوب اتباع القياس ، وقد سبق تقريره من وجوه ، سلمنا دلالته على ذلك ، لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ) وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف ، والأمر بالمعروف واجب القبول .

          وأما السنة فقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، [9] ، وقوله عليه السلام : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " [10] ، ولا يمكن [ ص: 153 ] حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم ; لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ، ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين ، فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم .

          وأما الإجماع : فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى ، وولى عثمان فقبل ، ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعا .









          [11] وأما المعقول فمن وجوه :

          الأول : أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال [ ص: 154 ] مستند أو يكون : لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلا في الشريعة بحكم لا دليل عليه ، وهو محرم ، وحال الصحابي العدل ينافي ذلك .

          وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل ، فكان حجة متبعة .

          الثاني : أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجة ، فكان حجة مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام .

          الثالث : أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد ، فإن كان الأول كان حجة ، وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده ; لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره ، فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي ، فوجب اتباعه له .

          والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه ، وعن القوادح ما سبق .

          وعن المعارضة بالكتاب : أنه لا دلالة فيه ; لما سبق في إثبات الإجماع ، وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ، ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجة أن يكون قول الواحد والاثنين حجة .

          وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضا ; لما سبق في الإجماع ، ولأن الخبر الأول وإن كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه ، وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه ، وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني .

          وعن الإجماع : أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك ; لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب ، بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين .

          كيف وأنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما ، فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه ، والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ، ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار [ ص: 155 ] إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجبا ، وإما على عثمان وعبد الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرما ، وذلك ممتنع .

          وعن المعارضة الأولى من المعقول : أنها منتقضة بمذهب التابعي ، فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق .

          وعن الثانية : أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون [12] ذلك إجماعا أم لا يكون إجماعا ، فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي ، وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر ، وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقا ، كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجة ، ولا يكون حجة بتقدير عدم انتشاره إجماعا .

          وعن الثالثة : لا نسلم أن مستنده النقل ; لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه ; لأنه من العلوم النافعة ، وقد قال عليه السلام : " من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار " ، وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي ، فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين بعده ; لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد ، وإن كان متميزا بما ذكروه من الصحبة ولوازمها [13] ، ولهذا قال عليه السلام : " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .

          [14] ثم هو منتقض بمذهب التابعي ، فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين ، وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية