قالوا : والدليل على ذلك ما وصف الله عن إبليس بقوله : ( خلقتني من نار ) ، وقوله ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) ، فأخبر أنه قد عرف أن الله قد خلقه ، ولم يخضع لأمره ، فيسجد لآدم كما أمره ، فلم ينفعه معرفته ، إذ زايله الخضوع ، ولم تكن معرفته إيمانا ، إذ لم يكن معها خضوع بالطاعة ، فسلبه الله اسم الإيمان ، والإسلام ، إذ لم يخضع له ، فيطيعه بالسجود ، فأبى ، وعاند ، ولو عرف الله بالمعرفة التي هي إيمان لخضع لجلاله ، وانقاد لطاعته ، ولم يرد عليه أمره .
والدليل على ذلك أيضا شهادة الله على قلوب بعض اليهود أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إليهم كما يعرفون أبناءهم ، فلا أحد أصدق شهادة على ما في قلوبهم من الله ، إذ يقول لنبيه : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . وقال : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) . وقال : ( ليكتمون الحق وهم يعلمون ) فشهد على قلوبهم بأنها [ ص: 697 ] عارفة عالمة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وما أنزل إليه أنه الحق من عند الله ، ثم أكفرتم مع ذلك ، ولم يوجب لهم اسم الإيمان بمعرفتهم ، وعلمهم بالحق ، إذ لم يقارن معرفتهم التصديق ، والخضوع لله ، ولرسوله بالتصديق له ، والطاعة ، لأن من صدق خضع قلبه ، ومن خضع قلبه أقر ، وصدق بلسانه ، وأطاع بجوارحه .
ومما يدل على أن في اللغة قول الله تبارك وتعالى : ( أصل الإسلام هو الخضوع وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، أي خضع له ، فالمؤمن خضع بالطوع ، والتدين ، والكافر خضع بالاضطرار ، وليس ذلك الخضوع لله إيمانا ، إلا أنه يدل على أن اسم الإسلام هو الخضوع ، وعلى ذلك أضيفت الأعمال إلى الإسلام .
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل ما الإيمان ؟ فقال : يعني أن تصدق ، وقال : ما الإسلام ؟ قال : " شهادة أن لا إله إلا الله " ، فأخبر أن الإسلام خضوع بالإقرار للإخلاص لله بالربوبية ، والوحدانية ، ولم يكن ذلك إلا عن خضوع القلب بالتصديق ، فكل خضوع عن خضوع القلب فهو إسلام ، وكل خضوع من القلب فهو من الإيمان ، لأن التصديق كلما ازداد صاحبه تصديقا ، ويقينا ، وبصيرة ازداد إجلالا لله ، وهيبة ، فإذا ازداد إجلالا ، وهيبة ، ازداد خضوعا ، وطمأنينة قلب إلى [ ص: 698 ] كل ما قال الله تبارك وتعالى ، حتى كأن لم يعاينه ، ألم تسمع ما قال الله عز وجل لإبراهيم : ( " أن تؤمن بالله " أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ، فأخبر أنه قد صدق ، وأراد أن يزداد تصديقا ، وبصيرة ، ويقينا ليزداد قلبه طمأنينة ، فلما عاين ذلك ازداد يقينا ، وطمأنينة من غير شك ، كان منه بأن الله يحيي الموتى ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : . " ليس الخبر كالمعاينة "
766 - حدثنا بذلك أنا عمرو بن زرارة ، عن هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عباس ، " ليس الخبر كالمعاينة " .
* قال فقد أبو عبد الله : ويقينا ، ولم يكن يدخلهم الشك في دنياهم قبل ذلك ، [ ص: 699 ] ولكن لما عاينوا الأمر عظم في قلوبهم أكثر مما كانوا يصدقون به في الجملة ، حتى ذهلت عقول الرسل ، فمن دونهم ، وأن ذلك لموجود في فطرنا ، يأتينا الصادق بالخبر بأن حبيب أحدنا قد مات ، فنصدقه ، ونستثير منه الحزن ، ثم نتابع الأخبار عليه ، فكل ما أخبره مخبر ازداد يقينا ، وتصديقا من غير شك منه في الخبر الأول ، فإذا عاينه امتلأ قلبه يقينا بأنه قد مات ، ثم أثار من قلبه من الحزن ما لم يكن من قبل ، حتى كأنه كان شاكا في خبر المخبرين ، فكذلك يزداد العبد بصيرة ، ويقينا ، وتصديقا من غير أن يكون دخل في أصل تصديقه شك ، وعن ذلك يكون الإجلال ، والهيبة ، وعن الإجلال والهيبة يزداد خضوعا بالطاعة ، ومسارعة إلى رضا طلب رضا المولى . أخبر الله المؤمنين عن القيامة ، فصدقوا ، ولم يشكوا ، فإذا عاينوها كانوا بها أعظم إيمانا ،