والتفت الساق بالساق فيه خمسة أقوال :
أحدها : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، قاله والثاني : اجتمع فيه الحياة والموت ، قاله ابن عباس ، والثالث : التفت ساقاه عند الموت ، قاله الحسن ، والرابع : التفت ساقاه في الكفن ، قاله الشعبي ، والخامس : التفت الشدة بالشدة ، قاله سعيد بن المسيب ، قال قتادة ، آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة . الزجاج :
فيا لها من ساعة لا تشبهها ساعة ، يندم فيها أهل التقى فكيف أهل الإضاعة ، يجتمع فيها شدة الموت إلى حسرة الفوت .
[ ص: 179 ] رضي الله عنه قالت أبو بكر الصديق عائشة :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ولذلك كان يقولها أبو بكر . لما احتضررضي الله عنه عند الموت : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي ! . عمر بن الخطاب وقال
ولما دخلوا على رضي الله عنه جعل يتمثل : عثمان
أرى الموت لا يبقي حزينا ولا يدع لعاد ملاكا في البلاد ومرتقى
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ويأتي الجبال من شماريخها العلى
شد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ب عذابا لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب عفو عن مسيء ذنوبه كالتراب
ولما احتضر جعل يقول : ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ، ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ! ! وبكى ، فقالت له امرأته : تبكي وقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : وما لي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي . أبو الدرداء
ولما احتضر بكى ، فقيل له : وما يبكيك ؟ فقال : بعد المفازة وقلة الزاد وعقبة كؤود ، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار ، وقيل أبو هريرة في مرضه : ما تشتهي ؟ قال الجنة ، قيل : فما تشتكي ؟ قال : الذنوب ، ولما احتضر لحذيفة قيل له : كيف تجدك ؟ فقال : والله لكأن جنبي في تخت ، وكأني أتنفس من سم الخياط ، وكأن غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي ثم قال : عمرو بن العاص
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
وكان يقول في مرضه : وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها وأني لم أل من هذا الأمر شيئا . عبد الملك بن مروان
ولما احتضر قال : إلهي أمرتني فلم أئتمر وزجرتني فلم أنزجر ، غير أني أقول : لا له إلا الله . عمر بن عبد العزيز
ولما احتضر الرشيد أمر بحفر قبره ثم حمل إليه فاطلع فيه فبكى حتى رحم ثم قال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من قد زال ملكه .
وكان المعتصم يقول عند موته : ذهبت الحيل فلا حيلة .
وبكى لما احتضر وقال : إنما أبكي على ظمإ الهواجر وقيام ليل الشتاء . عامر بن عبد قيس
وبكى عند موته فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : لم أشتف من قيام الليل . أبو الشعثاء
وبكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار ، ثم جعل يقول : يا يزيد من يصلي لك ومن يصوم عنك ، ومن يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال بعدك ، ويحكم : يا إخواني ، لا تغتروا بشبابكم ، فكأن قد حل بكم مثل ما قد حل بي .
وقال المزني : دخلت على في علته التي مات فيها فقلت له : أبا عبد الله كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا وبكأس المنية شاربا ، وعلى الله تعالى واردا ، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها . الشافعي
ثم بكى وقال :
ولما قسا قلبي وضافت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب سيدي تجود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغوى بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما
وبكى بعض العباد عند موته فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أن يصوم الصائمون ولست فيهم ، ويذكر الذاكرون ولست فيهم ، ويصلي المصلون ولست فيهم .
[ ص: 181 ] وقال أبو محمد العجلي : دخلت على رجل وهو في الموت فقال لي : سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي .
ولما احتضر عضد الدولة تمثل :
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازل فشردتهم غربا وبددتهم شرقا
فلما بلغت المجد عزا ورفعة وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي فها أنا ذا في جفوتي عاطلا ملقا
فأذهبت دنياي وديني سفاهة فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
ركب الأمان من الزمان مطية ليست كما اعتاد الركائب تبرك
والمرء مثل الخوف بين سهاده وكراه يسكن تارة ويحرك
نهاك عن البطالة والتصابي نحول الجسم والرأس الخضيب
إذا ما مات بعضك فابك بعضا فبعض الشيء من بعض قريب
أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، فإنكم في دار الثواء فيها قليل ، وأنتم فيها مؤجلون وخلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا زخرفها وزهرتها ، فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما [ ص: 182 ] وأعظم آثارا ، فخددوا الجبال وجابوا الصخور ، ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد ، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم ، وعفت آثارهم ، وأخوت منازلهم ، وأنست ذكرهم ، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا ، كانوا بلهو الأمل آمنين كبيات قوم غافلين أو كصباح قوم نادمين ، ثم إنكم قد علمتم الذي قد نزل بساحتهم بياتا فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين ، وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية ، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى ، وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضة ، في زمان قد ولى عفوه وذهب رجاؤه ، فلم يبق منه إلا جمة شر وصبابة كدر وأهاويل عبر (وعقوبات غبر ) وأرسال فتن ورذالة خلف ، بهم ظهر الفساد في البر والبحر ، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الأمل وغره طول الأجل ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن وعى نذره وعقل سراه فمهد لنفسه .
تزوج دنياه الغبي بجهله فقد نشزت من بعد ما قبض المهر
تطهر ببعد من أذاها وكيدها فتلك بغي لا يصح لها طهر
ونحن كركب الموج ما بين بعضهم وبين الردى إلا الذراع أو الشبر