الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ، ومحاربة أمير المؤمنين ، مرتدا ، مع أنهم سمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يا علي حربك حربي وسلمك سلمي

                  [1] ومحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافر بالإجماع "

                  [2] .

                  فيقال في الجواب : أولا : دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عنه كذب عليهم ، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك ؟ وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء

                  [3] الحديث [ ص: 496 ] المعروفة ، ولا روي بإسناد معروف . ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه ، فإنه لم يسمع كل منهم كل ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف إذا لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ولا روي بإسناد معروف ؟ بل كيف إذا علم أنه كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل العلم بالحديث ؟

                  [4] .

                  وعلي - رضي الله عنه - لم يكن قتاله يوم الجمل وصفين بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان رأيا رآه .

                  وقال أبو داود في سننه

                  [5] : " حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال : قلت لعلي - رضي الله عنه - : أخبرنا

                  [6] عن مسيرك هذا : أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أم رأي رأيته ؟ قال : ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا

                  [7] ، ولكنه رأي رأيته " .

                  ولو كان محارب علي محاربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتدا ، لكان علي يسير فيهم السيرة في المرتدين . وقد تواتر عن علي

                  [8] يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم ، ولم يجهز على جريحهم ، ولم يغنم لهم مالا

                  [9] ، ولا سبى

                  [10] [ ص: 497 ] لهم ذرية ، وأمر مناديه ينادي

                  [11] في عسكره : أن لا يتبع لهم مدبر

                  [12] ، ولا يجهز على جريحهم ، ولا تغنم أموالهم . ولو كانوا عنده مرتدين لأجهز على جريحهم واتبع مدبرهم

                  [13] .

                  وهذا مما أنكره الخوارج عليه ، وقالوا له : إن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم ، وإن كانوا كفارا فلم حرمت أموالهم ونساءهم ؟ فأرسل إليهم ابن عباس - رضي الله عنهما - فناظرهم ، وقال لهم : كانت عائشة فيهم ، فإن قلتم : إنها ليست أمنا كفرتم

                  [14] بكتاب الله ، وإن قلتم : هي أمنا استحللتم وطأها

                  [15] كفرتم بكتاب الله "

                  [16] .

                  وكذلك أصحاب الجمل كان يقول فيهم : إخواننا

                  [17] بغوا علينا طهرهم السيف .

                  وقد نقل عنه - رضي الله عنه - أنه صلى على قتلى الطائفتين . وسيجيء إن شاء الله بعض الآثار بذلك .

                  وإن كان أولئك مرتدين ، وقد نزل الحسن عن

                  [18] أمر المسلمين ، [ ص: 498 ] وسلمه

                  [19] إلى كافر مرتد ، كان المعصوم عندهم قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين . وليس هذا من فعل المؤمنين ، فضلا عن المعصومين .

                  وأيضا فإن كان

                  [20] أولئك مرتدين ، والمؤمنون أصحاب علي ، لكان الكفار

                  [21] المرتدون منتصرين على المؤمنين دائما .

                  والله تعالى يقول في كتابه [ : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) سورة غافر ، ويقول في كتابه ]

                  [22] : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) سورة الصافات ، ويقول في كتابه : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) سورة المنافقون .

                  وهؤلاء الرافضة ، الذين يدعون أنهم المؤمنون ، إنما لهم الذل [ والصغار ]

                  [23] ، ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس .

                  وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الآية ، سورة الحجرات ، فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي .

                  وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ ص: 499 ] " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق "

                  [24] . وقال : " إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [25] . وقال لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " [26] لم يقل : الكافرة .

                  وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم

                  [27] بالحديث ، وهي مروية بأسانيد متنوعة ، لم يأخذ بعضهم عن بعض .

                  وهذا مما يوجب العلم بمضمونها .

                  وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ، ومدح من أصلح الله به بينهما .

                  و [ قد ] أخبر

                  [28] أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى

                  [29] الطائفتين إلى الحق .

                  ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب

                  [30] : علي قد استحل دماء المسلمين : وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " [31] . وقال : [ ص: 500 ] " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " [32] . فيكون علي كافرا لذلك - لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ; لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة .

                  وأيضا فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد . وهذا حال فرعون . والله تعالى يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) سورة القصص فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال الصديق للمرتدين ولمانعي الزكاة ; فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله : لا على طاعته . فإن الزكاة فرض عليهم ، فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليطاع هو . ولهذا قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما : من قال أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام لم يكن للإمام أن يقاتله . وهذا فيه نزاع بين الفقهاء ، فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء ، وهو قول طائفة من الفقهاء ، ويحكى هذا عن الشافعي - رحمه الله - .

                  [ ص: 501 ] ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله ، لا على ترك طاعة شخص معين ، لم يجوز قتال هؤلاء .

                  وفي الجملة فالذين قاتلهم الصديق - رضي الله عنه - كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [33] .

                  والإقرار بما جاء به ، فلهذا كانوا مرتدين ، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين كمعاوية وأهل الشام ; فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وقالوا : نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة علي - رضي الله عنه - لما علينا في ذلك من الضرر ، فأين هؤلاء من هؤلاء ؟ .

                  واعلم أن طائفة من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج جميعا من قتال البغاة ، وجعلوا قتال الجمل وصفين من هذا الباب . وهذا القول خطأ مخالف لقول الأئمة الكبار ، وهو خلاف نص مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السلف ، ومخالف للسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن الخوارج أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، واتفق على ذلك الصحابة . وأما القتال بالجمل وصفين [34] .

                  فهو قتال فتنة ، وليس فيه أمر من الله ورسوله ولا إجماع من الصحابة . وأما قتال مانعي الزكاة إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية ، أو عن [35] . .

                  الإقرار بها ; فهو أعظم من قتال الخوارج .

                  [ ص: 502 ] ( * وأهل صفين لم يبدءوا عليا بالقتال ، وأبو حنيفة وغيره لا يجوزون قتال البغاة إلا أن يبدءوا الإمام [ بالقتال ] [36]

                  ، وكذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوزون [37]

                  قتال من قام بالواجب ، إذا كانت طائفة ممتنعة قالت : [38]

                  لا نؤدي زكاتنا إلى فلان * ) [39] . ; فيجب الفرق بين قتال المرتدين وقتال الخوارج المارقين .

                  وأما قتال البغاة المذكورين [40]

                  في القرآن فنوع ثالث غير هذا وهذا ; فإن الله تعالى لم يأمر بقتال البغاة ابتداء ، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين بالإصلاح بينهما ، وليس هذا حكم المرتدين ولا حكم الخوارج [41]

                  . والقتال يوم الجمل وصفين فيه نزاع : هل هو [42]

                  من باب قتال البغاة المأمور به في القرآن ؟ أو هو قتال فتنة القاعد فيه [43]

                  خير من القائم ، فالقاعدون من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء [ بعدهم ]

                  [44] يقولون : هو قتال فتنة ، ليس هو قتال البغاة المأمور به في القرآن ; فإن الله لم يأمر بقتال المؤمنين البغاة ابتداء لمجرد بغيهم ، بل إنما أمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم .

                  [ ص: 503 ] وقوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) يعود الضمير فيه إلى الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين ، لا يعود إلى طائفة مؤمنة لم تقاتل . بالتقدير : فإن بغت إحدى الطائفتين المؤمنتين المقتتلتين على الأخرى ، فقاتلوا الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، فمتى كانت طائفة باغية ولم تقاتل لم يكن في الآية أمر بقتالها .

                  ثم إن كان قوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) سورة الحجرات بعد الإصلاح فهو أوكد ، وإن كان بعد الاقتتال حصل المقصود .

                  وحينئذ فأصحاب معاوية إن كانوا قد بغوا قبل القتال لكونهم لم يبايعوا عليا ، فليس في الآية الأمر بقتال من بغى ولم يقاتل . وإن كان بغيهم بعد الاقتتال والإصلاح وجب قتالهم ، لكن هذا لم يوجد ; فإن أحدا لم يصلح بينهما [45]

                  .

                  ( * ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - : " هذه الآية ترك الناس العمل بها " يعني إذ ذاك .

                  وإن كان بغيهم [46] بعد الاقتتال * ) [47] وقبل الإصلاح ، فهنا إذا قيل بجواز القتال ، فهذا القدر إنما حصل في أثناء القتال . وحينئذ فشل أصحاب علي ونكلوا عن القتال

                  [48] لما رفعوا المصاحف . ففي الحال التي أمر بقتالهم فيها لم يقاتلوهم ، وفي الحال التي قاتلوهم لم يكن قتالهم مأمورا به . فإن كان [ ص: 504 ] أولئك بغاة معتدين فهؤلاء مفرطون مقصرون ، ولهذا ذلوا وعجزوا وتفرقوا ، وليس الإمام مأمورا بأن يقاتل بمثل هؤلاء .

                  وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم ، بخلاف الكلام في تكفيرهم ; فإن هذا أمر يعلم فساده الخاصة والعامة بالدلائل الكثيرة .

                  ومما يبين كذب هذا الحديث : أنه لو كان حرب علي حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى قد تكفل بنصر رسوله ، كما في قوله تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) سورة غافر ، وكما في قوله تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) سورة الصافات لوجب أن يغلب محارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  ولم يكن الأمر كذلك ، بل الخوارج لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، وكانوا من جنس المحاربين لله ورسوله ، انتصر عليهم ، كما كان ينتصر عليهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والرسل صلوات الله عليهم ، وإن كانت تبتلى في حروبهم ، فالعاقبة لها . فلو كانت محاربته محاربة للرسول ، لكان المنتصر في آخر الأمر هو . ولم يكن الأمر كذلك ، بل كان في آخر الأمر يطلب مسالمة معاوية - رضي الله عنه - ومهادنته ، وأن يكف عنه ، كما كان معاوية يطلب

                  [49] ذلك منه أول [ الأمر ]

                  [50] .

                  فعلم أن ذلك القتال ، وإن كان واقعا باجتهاد ، فليس هو من القتال [ ص: 505 ] الذي يكون محارب أصحابه محاربا لله ورسوله . ثم إنه لو قدر أنه محارب لله ورسوله ، فالمحاربون قطاع الطريق لا يكفرون إذا كانوا مسلمين .

                  وقد تنازع الناس في قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) سورة المائدة هل هي في الكفار أو في المسلمين ؟ ومن يقول : إنها في المسلمين ، يقول : إن الله تعالى يقول : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ولو كانوا كفارا مرتدين لم يجز أن يقتصر على قطع أيديهم ولا نفيهم

                  [51] ; بل يجب قتلهم فإن المرتد يجب قتله .

                  وكذلك من كان متأولا في محاربته مجتهدا لم يكن كافرا ، كقتل أسامة بن زيد لذلك المسلم متأولا لم يكن به كافرا . وإن كان استحلال قتل المسلم المعصوم كفرا ، وكذلك تكفير المؤمن كفر ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما "

                  [52] . ومع هذا إذا قالها متأولا لم يكفر ، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : [ ص: 506 ] " دعني أضرب عنق هذا المنافق وأمثاله " ، وكقول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : " إنك لمنافق

                  [53] تجادل عن المنافقين " في قصة الإفك

                  [54] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية