وأما قوله : " ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ، ومحاربة أمير المؤمنين ، مرتدا ، مع أنهم سمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " حربك حربي وسلمك سلمي علي يا
[1] ومحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافر بالإجماع "
[2] .
فيقال في الجواب : أولا : دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عنه كذب عليهم ، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك ؟ وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء
[3] الحديث [ ص: 496 ] المعروفة ، ولا روي بإسناد معروف . ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه ، فإنه لم يسمع كل منهم كل ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف إذا لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ولا روي بإسناد معروف ؟ بل كيف إذا علم أنه كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل العلم بالحديث ؟
[4] .
- رضي الله عنه - لم يكن قتاله يوم الجمل وعلي وصفين بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان رأيا رآه .
وقال في سننه أبو داود
[5] : " حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن ، عن الحسن قيس بن عباد قال : قلت - رضي الله عنه - : أخبرنا لعلي
[6] عن مسيرك هذا : أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أم رأي رأيته ؟ قال : ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا
[7] ، ولكنه رأي رأيته " .
ولو كان محارب محاربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتدا ، لكان علي يسير فيهم السيرة في المرتدين . وقد تواتر عن علي علي
[8] يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم ، ولم يجهز على جريحهم ، ولم يغنم لهم مالا
[9] ، ولا سبى
[10] [ ص: 497 ] لهم ذرية ، وأمر مناديه ينادي
[11] في عسكره : أن لا يتبع لهم مدبر
[12] ، ولا يجهز على جريحهم ، ولا تغنم أموالهم . ولو كانوا عنده مرتدين لأجهز على جريحهم واتبع مدبرهم
[13] .
وهذا مما أنكره الخوارج عليه ، وقالوا له : إن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم ، وإن كانوا كفارا فلم حرمت أموالهم ونساءهم ؟ فأرسل إليهم - رضي الله عنهما - فناظرهم ، وقال لهم : كانت ابن عباس فيهم ، فإن قلتم : إنها ليست أمنا كفرتم عائشة
[14] بكتاب الله ، وإن قلتم : هي أمنا استحللتم وطأها
[15] كفرتم بكتاب الله "
[16] .
وكذلك أصحاب الجمل كان يقول فيهم : إخواننا
[17] بغوا علينا طهرهم السيف .
وقد نقل عنه - رضي الله عنه - أنه صلى على قتلى الطائفتين . وسيجيء إن شاء الله بعض الآثار بذلك .
وإن كان أولئك مرتدين ، وقد نزل عن الحسن
[18] أمر المسلمين ، [ ص: 498 ] وسلمه
[19] إلى كافر مرتد ، كان المعصوم عندهم قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين . وليس هذا من فعل المؤمنين ، فضلا عن المعصومين .
وأيضا فإن كان
[20] أولئك مرتدين ، والمؤمنون أصحاب ، لكان الكفار علي
[21] المرتدون منتصرين على المؤمنين دائما .
والله تعالى يقول في كتابه [ : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) سورة غافر ، ويقول في كتابه ]
[22] : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) سورة الصافات ، ويقول في كتابه : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) سورة المنافقون .
وهؤلاء الرافضة ، الذين يدعون أنهم المؤمنون ، إنما لهم الذل [ والصغار ]
[23] ، ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس .
وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الآية ، سورة الحجرات ، فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي .
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ ص: 499 ] " " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق
[24] . وقال : " " إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [25] . وقال : " لعمار " تقتلك الفئة الباغية [26] لم يقل : الكافرة .
وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم
[27] بالحديث ، وهي مروية بأسانيد متنوعة ، لم يأخذ بعضهم عن بعض .
وهذا مما يوجب العلم بمضمونها .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ، ومدح من أصلح الله به بينهما .
و [ قد ] أخبر
[28] أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى
[29] الطائفتين إلى الحق .
ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب
[30] : قد استحل دماء المسلمين : وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " علي " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر [31] . وقال : [ ص: 500 ] " " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض [32] . فيكون كافرا لذلك - لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ; لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة . علي
وأيضا فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد . وهذا حال فرعون . والله تعالى يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) سورة القصص فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال للمرتدين ولمانعي الزكاة ; فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله : لا على طاعته . فإن الزكاة فرض عليهم ، فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليطاع هو . ولهذا قال الإمام الصديق أحمد وغيرهما : وأبو حنيفة . وهذا فيه نزاع بين الفقهاء ، فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء ، وهو قول طائفة من الفقهاء ، ويحكى هذا عن من قال أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام لم يكن للإمام أن يقاتله - رحمه الله - . الشافعي
[ ص: 501 ] ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله ، لا على ترك طاعة شخص معين ، لم يجوز قتال هؤلاء .
وفي الجملة فالذين قاتلهم - رضي الله عنه - كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصديق [33] .
والإقرار بما جاء به ، فلهذا كانوا مرتدين ، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين وأهل كمعاوية الشام ; فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وقالوا : نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة - رضي الله عنه - لما علينا في ذلك من الضرر ، فأين هؤلاء من هؤلاء ؟ . علي
واعلم أن طائفة من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي جعلوا وأحمد الخوارج جميعا من قتال البغاة ، وجعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال من هذا الباب . وهذا القول خطأ مخالف لقول الأئمة الكبار ، وهو خلاف نص قتال الجمل وصفين مالك وأحمد وغيرهم من أئمة السلف ، ومخالف للسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن وأبي حنيفة الخوارج أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، واتفق على ذلك الصحابة . وأما القتال بالجمل وصفين [34] .
فهو قتال فتنة ، وليس فيه أمر من الله ورسوله ولا إجماع من الصحابة . وأما قتال مانعي الزكاة إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية ، أو عن [35] . .
الإقرار بها ; فهو أعظم من قتال الخوارج .
[ ص: 502 ] ( * وأهل صفين لم يبدءوا بالقتال ، عليا وغيره وأبو حنيفة لا يجوزون قتال البغاة إلا أن يبدءوا الإمام [ بالقتال ] [36]
، وكذلك أحمد وأبو حنيفة لا يجوزون ومالك [37]
قتال من قام بالواجب ، إذا كانت طائفة ممتنعة قالت : [38]
لا نؤدي زكاتنا إلى فلان * ) [39] . ; فيجب الفرق بين قتال المرتدين وقتال الخوارج المارقين .
وأما قتال البغاة المذكورين [40]
في القرآن فنوع ثالث غير هذا وهذا ; فإن الله تعالى لم يأمر بقتال البغاة ابتداء ، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين بالإصلاح بينهما ، وليس هذا حكم المرتدين ولا حكم الخوارج [41]
. والقتال يوم الجمل وصفين فيه نزاع : هل هو [42]
من باب قتال البغاة المأمور به في القرآن ؟ أو هو قتال فتنة القاعد فيه [43]
خير من القائم ، فالقاعدون من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء [ بعدهم ]
[44] يقولون : هو قتال فتنة ، ليس هو قتال البغاة المأمور به في القرآن ; فإن الله لم يأمر بقتال المؤمنين البغاة ابتداء لمجرد بغيهم ، بل إنما أمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم .
[ ص: 503 ] وقوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) يعود الضمير فيه إلى الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين ، لا يعود إلى طائفة مؤمنة لم تقاتل . بالتقدير : فإن بغت إحدى الطائفتين المؤمنتين المقتتلتين على الأخرى ، فقاتلوا الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، فمتى كانت طائفة باغية ولم تقاتل لم يكن في الآية أمر بقتالها .
ثم إن كان قوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) سورة الحجرات بعد الإصلاح فهو أوكد ، وإن كان بعد الاقتتال حصل المقصود .
وحينئذ فأصحاب إن كانوا قد بغوا قبل القتال لكونهم لم يبايعوا معاوية ، فليس في الآية الأمر بقتال من بغى ولم يقاتل . وإن كان بغيهم بعد الاقتتال والإصلاح وجب قتالهم ، لكن هذا لم يوجد ; فإن أحدا لم يصلح بينهما عليا [45]
.
( * ولهذا قالت - رضي الله عنها - : " هذه الآية ترك الناس العمل بها " يعني إذ ذاك . عائشة
وإن كان بغيهم [46] بعد الاقتتال * ) [47] وقبل الإصلاح ، فهنا إذا قيل بجواز القتال ، فهذا القدر إنما حصل في أثناء القتال . وحينئذ فشل أصحاب ونكلوا عن القتال علي
[48] لما رفعوا المصاحف . ففي الحال التي أمر بقتالهم فيها لم يقاتلوهم ، وفي الحال التي قاتلوهم لم يكن قتالهم مأمورا به . فإن كان [ ص: 504 ] أولئك بغاة معتدين فهؤلاء مفرطون مقصرون ، ولهذا ذلوا وعجزوا وتفرقوا ، وليس الإمام مأمورا بأن يقاتل بمثل هؤلاء .
وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم ، بخلاف الكلام في تكفيرهم ; فإن هذا أمر يعلم فساده الخاصة والعامة بالدلائل الكثيرة .
ومما يبين كذب هذا الحديث : أنه لو كان حرب حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى قد تكفل بنصر رسوله ، كما في قوله تعالى : ( علي إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) سورة غافر ، وكما في قوله تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) سورة الصافات لوجب أن يغلب محارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولم يكن الأمر كذلك ، بل الخوارج لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، وكانوا من جنس المحاربين لله ورسوله ، انتصر عليهم ، كما كان ينتصر عليهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والرسل صلوات الله عليهم ، وإن كانت تبتلى في حروبهم ، فالعاقبة لها . فلو كانت محاربته محاربة للرسول ، لكان المنتصر في آخر الأمر هو . ولم يكن الأمر كذلك ، بل كان في آخر الأمر يطلب مسالمة - رضي الله عنه - ومهادنته ، وأن يكف عنه ، كما كان معاوية يطلب معاوية
[49] ذلك منه أول [ الأمر ]
[50] .
فعلم أن ذلك القتال ، وإن كان واقعا باجتهاد ، فليس هو من القتال [ ص: 505 ] الذي يكون محارب أصحابه محاربا لله ورسوله . ثم إنه لو قدر أنه محارب لله ورسوله ، فالمحاربون قطاع الطريق لا يكفرون إذا كانوا مسلمين .
وقد تنازع الناس في قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) سورة المائدة هل هي في الكفار أو في المسلمين ؟ ومن يقول : إنها في المسلمين ، يقول : إن الله تعالى يقول : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ولو كانوا كفارا مرتدين لم يجز أن يقتصر على قطع أيديهم ولا نفيهم
[51] ; بل يجب قتلهم فإن المرتد يجب قتله .
وكذلك من كان متأولا في محاربته مجتهدا لم يكن كافرا ، كقتل لذلك المسلم متأولا لم يكن به كافرا . وإن كان استحلال قتل المسلم المعصوم كفرا ، وكذلك تكفير المؤمن كفر ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أسامة بن زيد " إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما
[52] . ومع هذا إذا قالها متأولا لم يكفر ، كما قال عمر بن الخطاب : [ ص: 506 ] " لحاطب بن أبي بلتعة " ، وكقول دعني أضرب عنق هذا المنافق وأمثاله أسيد بن حضير : " إنك لمنافق لسعد بن عبادة
[53] تجادل عن المنافقين " في قصة الإفك
[54] .