وبهذا يظهر القول الثالث في هذا الأصل ، وهو أنه ليس كل يتمكن من معرفة الحق ، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا به من اجتهد واستدل [1] أو فعل محظورا . وهذا هو قول [2] الفقهاء والأئمة ، وهو القول المعروف عن سلف الأمة ، وقول جمهور المسلمين .
وهذا القول يجمع الصواب من القولين ، فالصواب من القول الأول قول الجهمية الذين وافقوا فيه السلف والجمهور وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل على الشيء يتمكن من معرفة الحق فيه ، بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة .
والقدرية يقولون [3] : إن الله تعالى سوى بين المكلفين في القدرة ، ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا ، ولا خص المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا .
وهذا من أقوال [4] القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف ، والعقل الصريح ، كما بسط في موضعه . ولهذا قالوا : إن كل مستدل فمعه قدرة تامة يتوصل بها إلى معرفة الحق .
[ ص: 99 ] ومعلوم أن الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة في السفر [5] فكلهم مأمورون بالاجتهاد والاستدلال على جهة القبلة ، ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها ، وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط ، فيظن في بعض الجهات أنها جهتها ، ولا يكون مصيبا في ذلك . لكن هو مطيع لله ولا إثم عليه في صلاته إليها ، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، فعجزه عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها [ كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها ] [6] .
ولهذا كان الصواب في الأصل الثاني : قول من يقول : إن بترك المأمور أو فعل المحظور . الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة ، بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم ; فإنهم قالوا : بل يعذب من لا ذنب له ، أو نحو ذلك .
ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة في نفس الإيجاب والتحريم العقلي بقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ سورة الإسراء : 15 ] وهو حجة عليهم أيضا في نفي العذاب مطلقا إلا بعد إرسال الرسل ، وهم يجوزون التعذيب قبل إرسال الرسل ، فأولئك يقولون : يعذب من لم يبعث إليه رسولا لأنه فعل القبائح العقلية ، وهؤلاء يقولون : بل يعذب من لم يفعل قبيحا قط كالأطفال .
وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضا . قال تعالى : [ ص: 100 ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ سورة الإسراء 15 ] وقال تعالى عن النار : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير [ سورة الملك 8 - 9 ] . فقد أخبر سبحانه وتعالى بصيغة العموم أنه كلما ألقي فيها فوج سألهم الخزنة : هل جاءهم [7] نذير فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير فلم يبق فوج يدخل النار إلا وقد جاءهم نذير ، فمن لم يأته نذير لم يدخل النار .
وقال تعالى لإبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ سورة ص : 85 ] فقد أقسم سبحانه أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ، وإنما أتباعه من أطاعه ، فمن لم يعمل ذنبا لم يطعه ، فلا يكون ممن تملأ [8] به النار ، وإذا ملئت بأتباعه لم يكن لغيرهم فيها موضع .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وأنس بن مالك [9] أي تقول : حسبي [ ص: 101 ] حسبي . وأما الجنة فيبقى فيها فضل ، فينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة . لا يزال يلقى في النار وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه وفي رواية فيضع قدمه عليها فتقول : قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض " [10] . هكذا روي في الصحاح من غير وجه ، ووقع في بعض طرق غلط قال فيه : " البخاري وأما النار فيبقى فيها فضل " [11] رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط هذا الراوي ، كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب ، وما علمت وقع فيه غلط إلا [ ص: 102 ] وقد بين فيه والبخاري [12] الصواب ، بخلاف فإنه وقع في صحيحه عدة أحاديث غلط ، أنكرها جماعة من الحفاظ على مسلم . مسلم قد أنكر عليه بعض الناس تخريج أحاديث ، لكن الصواب فيها مع والبخاري ، والذي أنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا ، وأما سائر متونهما فمما اتفق علماء المحدثين على صحتها وتصديقها وتلقيها بالقبول لا يستريبون في ذلك . البخاري
وقد قال تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ سورة الأنعام 130 - 131 ] [ ص: 103 ] فقد خاطب الجن والإنس ، واعترف المخاطبون بأنهم جاءتهم رسل يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم القيامة . ثم قال : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي هذا بهذا السبب ؛ فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير ، فكيف الطفل الذي لا عقل له ؟ .
ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه ، وإلا فلو كان الظلم هو الممتنع لم يتصور أن يهلكهم بظلم ، بل كيفما أهلكهم فإنه ليس بظلم عند الجهمية الجبرية .
وقد قال تعالى : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ سورة القصص : 59 ] . وقال تعالى : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [ سورة هود : 117 ] . وقال تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ سورة طه 112 ] قال المفسرون : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره ، والهضم أن ينقص من حسناته ، فجعل سبحانه عقوبته بذنب غيره ظلما ونزه نفسه عنه .
ومثل هذا كثير كقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت [ سورة البقرة 286 ] وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ سورة الأنعام : 164 ] ، وكذلك قوله : لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ سورة ق 28 - 29 ] فبين سبحانه أنه قدم [ ص: 104 ] بالوعيد وأنه ليس بظلام للعبيد [13] ، كما قال في الآية الأخرى : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم [ سورة هود : 100 - 101 ] فهو سبحانه نزه نفسه عن ظلمهم وبين أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم فمن لم يكن ظالما لنفسه تكون عقوبته ظلما تنزه الله عنه .
وقال في الآية الأخرى : إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين [ سورة الزخرف 74 - 76 ] .
وهذا الذي نزه نفسه عنه : إن كان هو الممتنع الذي لا يمكن فعله فأي فائدة في هذا ؟ وهل أحد يخاف أن يفعل به ذلك ؟ وأي تنزيه في هذا ؟ وإذا قيل : هو لا يفعل إلا ما يقدر عليه . قيل : هذا معلوم لكل أحد ، وكل أحد لا يفعل إلا ما يقدر عليه . فأي مدح في هذا مما يتميز به الرب سبحانه عن العالمين ؟ الظلم [14] .
( * فعلم أن من الأمور الممكنة ما هو ظلم تنزه الله سبحانه عنه مع قدرته عليه ، وبذلك يحمد ويثنى عليه ; فإن الحمد والثناء يقع بالأمور الاختيارية من فعل وترك ، كعامة ما في القرآن من الحمد ، والشكر أخص [ ص: 105 ] من ذلك ، يكون على النعم ، والمدح أعم من ذلك ؛ وكذلك التسبيح فإنه تنزيه وتعظيم ، فإذا سبح بحمده جمع له [15] بين هذا وهذا كما قد بسطنا الكلام على حقيقة التسبيح والتحميد ومعنى التسبيح بحمده في غير هذا الموضع * ) [16] .
وقد قال سبحانه وتعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ سورة الأنبياء : 26 ] فالاتخاذ فعل من الأفعال وقد نزه سبحانه نفسه عنه . فعلم أن من الأفعال ما نزه سبحانه نفسه عنه . والجبرية [17] عندهم لا ينزه عن فعل من الأفعال .
وفي حديث البطاقة الذي رواه وصححه وغيره الترمذي [18] ، ورواه في صحيحه . قال فيه : " الحاكم " فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل منها مد البصر . ثم يقال : لا ظلم عليك ، إن لك عندنا بطاقة ؛ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة ، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات [19] فقوله : ( ) دليل على أنه إن لم يجاز بتلك [ ص: 106 ] الحسنات وتوزن حسناته مع سيئاته ، كان ذلك ظلما يقدس لا ظلم عليك [20] الله عنه ; فإنه القائم بالقسط .
وقد قال تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ سورة الكهف : 49 ] فهل يقال : هذا النفي أنه لا يفعل مع أحد ما لا يمكن ولا يقدر عليه ؟ أو لا يظلمهم شيئا من حسناتهم ، بل يحصيها كلها ويثيبهم [21] عليها ؟ فدل على أن العبد يثاب على حسناته ، ولا ينقص شيئا منها ، ولا يعاقب إلا على سيئاته ، وأن عقوبته بغير ذنب وبخس حسناته ظلم ينزه [22] الرب تبارك وتعالى عنه .
وأيضا فقوله تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين [ سورة القلم : 35 ] وقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ سورة ص : 28 ] . وقال : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ سورة الجاثية : 21 ] إلى غير ذلك .
فدل على أن التسوية بين هذين المختلفين من الحكم السيئ الذي ينزه عنه ، وأن ذلك منكر لا يجوز نسبته إلى الله تعالى ، وأن من جوز ذلك [ ص: 107 ] فقد جوز منكرا لا يصلح أن يضاف إلى الله تعالى ; فإن قوله : أفنجعل المسلمين كالمجرمين [ سورة القلم : 35 ] استفهام إنكار ، فعلم أن جعل هؤلاء مثل هؤلاء منكر لا يجوز أن يظن بالله أنه يفعله . فلو كان هذا وضده بالنسبة إليه سواء جاز أن يفعل هذا وهذا .
وقوله : ساء ما يحكمون [ سورة الأنعام : 136 ] دل على أن هذا حكم سيئ ، والحكم السيئ هو الظلم الذي لا يجوز ، فعلم أن الله تعالى منزه عن هذا . ومن قال إنه يسوي بين المختلفين ، فقد نسب إليه الحكم السيئ ، وكذلك تفضيل أحد المتماثلين ، بل التسوية بين المتماثلين والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى .
وضع الشيء في غير موضعه ; فإذا جعل النور كالظلمة ، [ والمحسن كالمسيء ] والظلم [23] ، والمسلم كالمجرم كان هذا ظلما وحكما سيئا يقدس وينزه عنه [24] سبحانه وتعالى .
وقال تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ سورة المائدة : 50 ] . وعند هؤلاء لو حكم بحكم الجاهلية لكان حسنا ، وليس في نفس الأمر حكم حسن وحكم غير حسن ؛ بل الجميع سواء . فكيف يقال مع هذا : ومن أحسن من الله حكما ؟ فدل هذا النص على أن حكمه حسن لا أحسن منه ؟ والحكم الذي يخالفه [ ص: 108 ] سيئ ليس بحسن . وذلك دليل على أن ، فلو لم يكن الحسن إلا ما تعلق به الحسن صفة لحكمه [25] الأمر ، أو ما لم ينه عنه ؛ لم يكن في الكلام فائدة ، ولم يقسم الحكم إلى حسن وأحسن ; لأن عندهم يجوز أن يحكم الرب بكل ما يمكن وجوده ، وذلك كله حسن ، فليس عندهم حكم ينزه الرب عنه .
وقال تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته [ سورة الأنعام : 124 ] [26] ، فدل على أنه أعلم بالمحل الذي يناسب الرسالة ، ولو كان الناس مستوين ، والتخصيص بلا سبب ، لم يكن لهذا العلم معلوم يختص به محل الرسالة .
وقال تعالى : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر [ سورة القمر : 41 - 43 ] ، وقال : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين [ سورة الدخان : 37 ] . فهذا يبين أن أولئك إذا كانوا كفارا وقد عذبناهم ، فالكفار الذين كذبوا محمدا ليسوا خيرا من أولئك ، بل هم مثلهم [27] استحقوا من العقوبة ما استحقه أولئك ، ولو كانوا خيرا منهم لم يستحقوا ذلك . فعلم أنه سبحانه يسوي بين المتماثلين ويفضل صاحب الخير فلا يسوي بينه وبين من هو دونه .
[ ص: 109 ] وكذلك قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار [ سورة الحشر : 2 ] إلى قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ سورة الحشر : 4 ] ، والاعتبار أن يعبر منهم إلى أمثالهم ، فيعرف أن من فعل كما فعلوا استحق كما استحقوا ولو كان تعالى قد يسوي بين المتماثلين وقد لا يسوي ، لم يمكن الاعتبار حتى يعلم أن هذا المعين [28] مما يسوى بينه وبين نظيره ، وحينئذ فلا يمكن الاعتبار إلا بعد معرفة حكم ذلك المعين [29] ، وحينئذ فلا يحتاج إلى الاعتبار .
ومن العجب أن أكثر أهل الكلام احتجوا بهذه الآية على ، وإنما تدل عليه لكون الاعتبار القياس [30] يتضمن التسوية بين المتماثلين ، فعلم أن الرب يفعل هذا في حكمه ، فإذا اعتبروا بها في أمره الشرعي لدلالة مطلق الاعتبار على ذلك ، فهلا استدلوا بها على حكمه الخلقي الكوني في الثواب والعقاب ، وهو الذي قصد بالآية فدلالتها عليه أولى ؟ .
فعلم أن المتماثلين في الذنب متماثلان في استحقاق العقاب ، [ ص: 110 ] بخلاف من لم يشركهما في ذلك . وإذا قيل : هذا قد علم بخبره . قيل : هو لم يخبر قبل بهذا ، بل دل على أن هذا هو حكمه الذي لا يجوز أن يضاف إليه سواه ، كما دل على ذلك ما تقدم من الآيات .
وأيضا فالنصوص قد أخبرت بالميزان بالقسط ، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ؛ فدل هذا على أن مثقال ذرة إذا زيد في السيئات أو نقص من الحسنات كان ظلما ينزه الله عنه ، ودل على أنه يزن الأعمال بالقسط الذي هو العدل فدل على أن خلاف ذلك ليس قسطا ، بل ظلم [31] تنزه الله عنه ، ولو لم يكن هنا [32] عدل لم يحتج إلى الموازنة ; فإنه إذا كان التعذيب والتنعيم بلا قانون عدلي ، بل بمحض المشيئة ، لم يحتج إلى الموازنة .
وقال تعالى : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين [ سورة آل عمران : 108 ] قال وغيره : قد أعلمنا أنه يعذب من عذبه لاستحقاقه . وقال آخر : معناه أنه لا يعاقبهم بلا جرم ، فسمى هذا ظلما . الزجاج
وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه ، كقوله تعالى : لا يكلف نفسا إلا وسعها والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها [ سورة الأعراف : 42 ] وقوله : لا تكلف نفس إلا وسعها [ سورة البقرة 233 ] ، وقوله : لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها [ ص: 111 ] [ سورة الطلاق : 7 ] ، وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] ، وقد دعاه المؤمنون بقولهم : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ سورة البقرة : 286 ] فقال : قد فعلت [33] .
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه ، خلافا للجهمية المجبرة [34] ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي ، خلافا للقدرية والمعتزلة ، وهذا فصل الخطاب في هذا الباب .
فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع ، كان هذا هو الذي كلفه الله إياه ، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ، ولا يعاقبه الله البتة ، خلافا للجهمية المجبرة [35] ، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله ، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر ، وقد لا يعلمه ، خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم : كل من استفرغ وسعه علم الحق ، فإن هذا باطل كما تقدم ؛ بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب .
وكذلك الكفار من بلغته [36] دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الكفر ، وعلم أنه رسول الله فآمن به ، وآمن بما أنزل عليه ، واتقى الله ما استطاع ، كما فعل وغيره ، ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام . [ ص: 112 ] ولا التزام جميع شرائع النجاشي [37] الإسلام ، لكونه ممنوعا من الهجرة ، وممنوعا من إظهار دينه ، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام ؛ فهذا مؤمن من أهل الجنة ، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون ، وكما كانت امرأة فرعون ، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر ; فإنهم كانوا كفارا ، ولم يكن يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام ، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه .
قال تعالى عن مؤمن آل فرعون : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا [ سورة غافر : 34 ] .
وكذلك هو وإن كان ملك النجاشي النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام ، بل إنما دخل معه نفر منهم . ولهذا لما مات لم يكن هناك من [38] يصلي عليه فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة : خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه ، وأخبرهم بموته يوم مات ، وقال : " أهل الحبشة مات " إن أخا لكم صالحا من [39] .
[ ص: 113 ] وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك ، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت ، بل قد روي أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس ، ولا يصوم شهر رمضان ، ولا يؤدي الزكاة الشرعية ; لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه ، وهو لا يمكنه مخالفتهم . ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن .
والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه ، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه . وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم ، وفي الديات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع : النفس بالنفس ، والعين بالعين ، وغير ذلك .
ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن ; فإن قومه لا يقرونه على ذلك . وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا - بل وإماما - وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها ، فلا يمكنه ذلك ، بل هناك من يمنعه ذلك والنجاشي [40] ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل ، وقيل : إنه سم على ذلك . وعمر بن عبد العزيز
[ ص: 114 ] فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة ، وإن كانوا لم يلتزموا [41] مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه ، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها ، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب .
قال تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب [ سورة آل عمران : 199 ] . وهذه الآية قد قال طائفة من السلف : إنها نزلت في . ويروى هذا عن النجاشي جابر وابن عباس . ومنهم من قال : فيه وفي أصحابه وأنس [42] ، كما قال الحسن وقتادة ، وهذا مراد الصحابة ، لكن [43] هو المطاع ; فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد ، وعن عطاء قال : نزلت في أربعين من أهل نجران وثلاثين من أهل [44] الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا [45] على دين عيسى فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم [46] .
[ ص: 115 ] ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، مثل وغيره ممن كان يهوديا ، عبد الله بن سلام وغيره ممن كان نصرانيا ; لأن هؤلاء صاروا من المؤمنين ، فلا يقال فيهم : وسلمان الفارسي وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم [ سورة آل عمران : 199 ] ولا يقول أحد : إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين ، يقال : إنهم من أهل الكتاب ، كما لا يقال عن الصحابة الذين كانوا مشركين : وإن من المشركين لمن يؤمن بالله ورسوله ، فإنهم بعد الإيمان ما بقوا يسمون مشركين ; فدل على أن هؤلاء قوم من أهل الكتاب ، أي من جملتهم ، وقد آمنوا بالرسول .
كما قال تعالى في المقتول خطأ : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة [ سورة النساء : 92 ] [47] فهو من العدو ، ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه ؛ فسماه مؤمنا لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه .
وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون [ ص: 116 ] بإيمانهم ، وهم عاجزون عن الهجرة . قال تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا سورة النساء 97 - 99 ] فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة .
وقال تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [ سورة النساء : 75 ] فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم ، فقد سقط عنهم ما عجزوا عنه .
فإذا كان هذا فيمن كان مشركا وآمن ، فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن ؟ .
وقوله : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن [ سورة النساء : 92 ] قيل : هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب ، مثل أن يكون [48] في صفهم [49] فيعذر القاتل لأنه مأمور بقتاله ، فتسقط عنه الدية وتجب الكفارة . وهو قول الشافعي في أحد القولين . وأحمد
[ ص: 117 ] وقيل : بل هو من أسلم ولم يهاجر ، كما يقوله . لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة . وقيل : إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث ، فلا يعطى أهل الحرب ديته أبو حنيفة [50] ، بل تجب الكفارة فقط . وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ ، أو ظن أنه كافر . وهذا ظاهر الآية .
وقد قال بعض المفسرين : إن هذه الآية نزلت في وأصحابه ، كما نقل عن عبد الله بن سلام ابن جريج ومقاتل وابن زيد ؛ يعني قوله : وإن من أهل الكتاب وبعضهم قال : إنها في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى [51] .
فهذا إن أراد به من كان في الظاهر معدودا من أهل الكتاب ، فهو كالقول الأول . وإن أراد العموم ، فهو كالثاني . وهذا قول ، ورواه مجاهد أبو صالح عن ، وقول من أدخل فيها مثل ابن عباس ابن سلام وأمثاله ضعيف ; فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرا وباطنا من كل وجه ، لا يجوز أن يقال فيهم : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب [ سورة آل عمران : 199 ] .
أما أولا : فلأن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وقال : " [52] أن وجهه ليس بوجه كذاب " فلما رأيت وجهه علمت [53] .
[ ص: 118 ] و سورة آل عمران إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر .
وثانيا : أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين ، وهو من أفضلهم ، وكذلك . فلا يقال فيه : إنه سلمان الفارسي [54] من أهل الكتاب . وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين ، بل يؤتون أجرهم مرتين ، وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام ؛ فأجرهم أعظم من أن يقال فيه : أولئك لهم أجرهم عند ربهم .
وأيضا فإن أمر هؤلاء كان ظاهرا معروفا ، ولم يكن أحد يشك فيهم ، فأي فائدة في الإخبار بهم ؟ .
وما هذا إلا كما يقال : الإسلام دخل فيه من كان مشركا ومن كان كتابيا . وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يكن يعرف قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فكل من دخل فيه كان قبل ذلك إما مشركا وإما من أهل الكتاب ، إما كتابيا وإما أميا ، فأي فائدة في الإخبار بهذا ؟ .
[ ص: 119 ] بخلاف أمر وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النجاشي النصارى ; فإن أمرهم قد يشتبه ، ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه لما مات النجاشي [55] صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قائل : نصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه ؟ فنزلت هذه الآية . هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك ، وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على وابن عباس النجاشي [56] .
وهذا بخلاف ابن سلام ; فإنه إذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد . وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل وسلمان الفارسي [57] في حق ابن أبي وأمثاله ، وأن من هو في أرض الكفر قد يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشي .
ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين [ ص: 120 ] [ سورة آل عمران : 110 - 114 ] . وهذه الآية [58] قيل : إنها نزلت في وأصحابه ، وقيل : إن قوله : عبد الله بن سلام منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون هو وأصحابه عبد الله بن سلام [59] . وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله ; فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب .
وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر ، وهو مؤمن لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون ، كمؤمن آل فرعون : هو من آل فرعون وهو مؤمن .
ولهذا قال تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم [ سورة غافر : 28 ] فهو من آل فرعون وهو مؤمن .
[ ص: 121 ] وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون ، ولهذا قال تعالى : وأكثرهم الفاسقون [ سورة آل عمران : 110 ] . وقد قال قبل هذا : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم [ سورة آل عمران : 110 ] ثم قال : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ سورة آل عمران : 110 ] ثم قال : لن يضروكم إلا أذى [ سورة آل عمران : 111 ] وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم . ولهذا قال : وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون [ سورة آل عمران : 111 ] . وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه ، يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة ، وهو مكره على القتال ، ويبعث يوم القيامة على نيته .
كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " يغزو جيش هذا البيت ، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم " . فقيل : يا رسول الله ، وفيهم المكره ؟ فقال : " يبعثون على نياتهم [60] .
[ ص: 122 ] وهذا في ظاهر الأمر وإن قتل [61] وحكم عليه بما يحكم على الكفار ، فالله يبعثه على نيته . كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام [62] ويبعثون على نياتهم ، فالجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر [63] .
ولهذا روي قال : يا رسول الله ، كنت مكرها . قال : " أما ظاهرك فكان علينا ، وأما سريرتك فإلى الله العباس " أن [64] .
وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن ، بل الوجوب بحسب الإمكان . وكذلك ما لم يعلم حكمه ، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ، وبقي مدة لم يصل ، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء . وهذا مذهب من كان في دار الكفر ، وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة ، لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها وأهل الظاهر ، وهو أحد الوجهين في مذهب أبي حنيفة . وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء [ ص: 123 ] الزكاة وغير ذلك ، ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين ، وإنما اختلفوا في قضاء الصلاة أحمد [65] .
وكذلك لو كما لا يفسخه عامل بما يستحله من ربا أو ميسر ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض : هل يفسخ العقد أم لا ؟ [66] لو فعل ذلك قبل الإسلام . وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادتهم ، ثم لما بلغه شرائع الإسلام رأى أنه قد أخل ببعض شروطه ، كما لو تزوج في عدة وقد انقضت ، فهل يكون هذا فاسدا أو يقر عليه ، كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم .
وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها ؟ أم لا تلزم أحدا [67] إلا بعد العلم ؟ أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة ؟ هذا فيه ثلاثة أقوال ، هي ثلاثة أوجه في مذهب ؛ ذكر أحمد الوجهين المطلقين في كتاب له ، وذكر هو وغيره الوجه المفرق في أصول الفقه ، وهو أن القاضي أبو يعلى النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ [68] ، وخرج أبو الخطاب وجها بثبوته .
ومن هذا الباب من ، أو ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها [69] في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي ، هل يعيد الصلاة ؟ [ ص: 124 ] فيه روايتان منصوصتان عن صلى . والصواب في هذا الباب كله أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم ، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه أحمد [70] .
فقد ثبت في الصحيح أن من الصحابة من [71] الأبيض من الأسود أكل بعد طلوع الفجر في رمضان حتى تبين له الحبل [72] ، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء [73] .
ومنهم من كان ، يمكث جنبا مدة لا يصلي ، ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبي ذر ، وكعمر بن الخطاب [ ص: 125 ] لما أجنبا ، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم بالقضاء وعمار [74] .
ولا شك أن خلقا من المسلمين بمكة والبوادي صاروا يصلون إلى بيت المقدس حتى بلغهم النسخ ولم يؤمروا بالإعادة . ومثل هذا كثير .
وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور : أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . فالوجوب مشروط بالقدرة ؛ بعد قيام الحجة . والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور