الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين ، المختلفين في أصول الدين . ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام ; فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل ، وتكذيب بحق [1] ، ومخالفة الكتاب [2] والسنة ، فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال . ولم يذم السلف من كان كلامه حقا ، [ فإن ما كان حقا ][3] فإنه هو الذي جاء به الرسول ، ( وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ) [4] ، ومع هذا فيستفاد من كلامهم [5] نقض بعضهم على بعض ، وبيان فساد قوله ، فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل [6] ، وكل طائفة تقصد بيان بطلان [7] قول [8] الأخرى ، فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب .

                  وهذا مما مدح به الأشعري ; فإنه بين من فضائح المعتزلة وتناقض [ ص: 277 ] أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره ، لأنه كان منهم ، وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة ، وكان ذكيا ، ثم إنه رجع عنهم ، وصنف في الرد عليهم ، ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب ، لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ، ولم يعرف غيرها ، فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث ، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ، وتفسير السلف للقرآن . والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا [9] .

                  ولهذا يذكر [10] في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة : يذكر [11] قول كل واحد منهم ، وما بينهم من النزاع في الدق والجل ، كما يحكي ابن [12] أبي زيد [13] مقالات أصحاب مالك ، وكما يحكي أبو الحسن القدوري [14] اختلاف أصحاب أبي حنيفة . ويذكر أيضا مقالات الخوارج والروافض [15] ، لكن نقله لها [16] من كتب أرباب المقالات ، لا عن مباشرة [ ص: 278 ] منه للقائلين ، ولا عن خبرة بكتبهم ، ولكن فيها تفصيل عظيم ، ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ، ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب [17] .

                  فإذا جاء إلى [18] مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا ، يلقى [19] أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي [20] ، وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم . وأين العلم المفصل من العلم المجمل ؟ [21] وهو يشبه [22] من بعض الوجوه ، علمنا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - تفصيلا [23] ، وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا ، لما نقله الناس عن [24] التوراة والإنجيل ، وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه ، واختلاف أهله وأدلته ، بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر [25] ، فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة .

                  [ ص: 279 ] فهكذا [26] معرفته بمذهب أهل السنة والحديث ، مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك ، وهو أعرف به من جميع أصحابه : من القاضي أبي بكر ، وابن فورك ، وأبي إسحاق . وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ، ومن الشهرستاني ، [ ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني ] [27] من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري ; فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها .

                  وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث ، وليس هو من علماء الحديث . أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين ، وليس هو من أئمة الفقه . والمقرئ الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب ، وليس هو من أئمة النحاة . والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن ، وليس هو من أئمة القراء ، ونظائر هذا متعددة .

                  والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الاختلاف في الكتاب . وهذا الاختلاف القولي ، وأما الاختلاف العملي وهو الاختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الاختلاف .

                  والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم [28] يدخلون في النوعين . والملوك الذين يتقاتلون [29] على محض الدنيا يدخلون في الثاني . والذين يتكلمون في العلم ، ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ، ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ، ولا بلسان ، هؤلاء هم أهل العلم ، وهؤلاء خطؤهم مغفور [ ص: 280 ] لهم وليسوا مذمومين ، إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور ، فيكون ذلك من ذنوبهم ; فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره ، وقد شرع الله - تعالى - أن نسأله ذلك في كل صلاة ، وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير ، وكل أحد محتاج إلى الدعاء به ، فلهذا أوجبه الله - تعالى - على العبد في كل صلاة .

                  فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا ، مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق ، فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده ، فيثبته أو ينفيه ، ويحبه أو يبغضه ، ويأمر به أو ينهى عنه ، ويحمده أو يذمه . وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا ، أو سمع [30] ذم الطائفة الفلانية مجملا ، وهو لا يعرف تفاصيل الأمور : من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ، ومن كان متوسطا في الكلام ، لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ، ويقبله بعبارة [31] ، ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث ، وفيها تلك المقالات التي كان يذمها ، فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم ، وقد ذكروها [32] بعبارة أخرى ، أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك .

                  [ ص: 281 ] وهذا مما يوجد كثيرا ، والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء [33] يعظم أئمة ، ويذم أقوالا ، قد يلعن قائلها أو يكفره ، وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ، ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل ، وكثير منها يكون قد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعرف ذلك .

                  فإن كان ممن قبلها من المتكلمين [34] تقليديا ، فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم ، فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أئمتهم قلدهم ، وإن ظن أن الأئمة أجل قدرا وأعرف بالحق [35] وأتبع للرسول قلدهم ، وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء [36] الحديث بخلافه [37] بقي في الحيرة ، وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض ، وليس عنده ما يبني عليه ، وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما ; فإن التقليد لا يورث الجزم ، فإذا جزم بأن الرسول قاله ، وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق ، جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام .

                  وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض ، وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض ، هو من [38] أنفع الأمور ; فإنه ما منهم إلا من قد [39] فضل مقالته طوائف ، فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه [ ص: 282 ] المقالة عرف فسادها ، فكان في ذلك نهي عما فيها من المنكر والباطل .

                  وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك [40] ، فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل ، فيتقي الباطل الذي معهم . ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول : إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين ، وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء ، وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة ، إذ هداه الصراط المستقيم ، وجنبه صراط أهل البغي والضلال .

                  وإن لم يتبين له ، كان امتناعه من موافقة هؤلاء على ضلالهم ، وهؤلاء على ضلالهم ، نعمة في حقه ، واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا ، وأمسك عن الكلام في تلك المسألة ، وكانت من جملة ما لم يعرفه ; فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به ، وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام ، بل والعربية والطب وغير ذلك ، ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية