وأما . ولهذا معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين ، المختلفين في أصول الدين ; فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل ، وتكذيب بحق كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام [1] ، ومخالفة الكتاب [2] والسنة ، فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال . ولم يذم السلف من كان كلامه حقا ، [ فإن ما كان حقا ][3] فإنه هو الذي جاء به الرسول ، ( وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ) [4] ، ومع هذا فيستفاد من كلامهم [5] نقض بعضهم على بعض ، وبيان فساد قوله ، فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل [6] ، وكل طائفة تقصد بيان بطلان [7] قول [8] الأخرى ، فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب .
وهذا مما مدح به ; فإنه بين من فضائح الأشعري المعتزلة وتناقض [ ص: 277 ] أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره ، لأنه كان منهم ، وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة ، وكان ذكيا ، ثم إنه رجع عنهم ، وصنف في الرد عليهم ، ونصر في الصفات طريقة ، لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ، ولم يعرف غيرها ، فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث ، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ، وتفسير السلف للقرآن . والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا ابن كلاب [9] .
ولهذا يذكر [10] في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة : يذكر [11] قول كل واحد منهم ، وما بينهم من النزاع في الدق والجل ، كما يحكي ابن [12] أبي زيد [13] مقالات أصحاب ، وكما يحكي مالك أبو الحسن القدوري [14] اختلاف أصحاب . ويذكر أيضا مقالات أبي حنيفة الخوارج والروافض [15] ، لكن نقله لها [16] من كتب أرباب المقالات ، لا عن مباشرة [ ص: 278 ] منه للقائلين ، ولا عن خبرة بكتبهم ، ولكن فيها تفصيل عظيم ، ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ، ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب [17] .
فإذا جاء إلى [18] مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا ، يلقى [19] أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي [20] ، وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم . وأين العلم المفصل من العلم المجمل ؟ [21] وهو يشبه [22] من بعض الوجوه ، علمنا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - تفصيلا [23] ، وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا ، لما نقله الناس عن [24] التوراة والإنجيل ، وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه ، واختلاف أهله وأدلته ، بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر [25] ، فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة .
[ ص: 279 ] فهكذا [26] معرفته بمذهب أهل السنة والحديث ، مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك ، وهو أعرف به من جميع أصحابه : من القاضي أبي بكر ، وابن فورك ، وأبي إسحاق . وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ، ومن ، [ ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني ] الشهرستاني [27] من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره ; فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها . الأشعري
وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث ، وليس هو من علماء الحديث . أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين ، وليس هو من أئمة الفقه . والمقرئ الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب ، وليس هو من أئمة النحاة . والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن ، وليس هو من أئمة القراء ، ونظائر هذا متعددة .
والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الاختلاف في الكتاب . وهذا الاختلاف القولي ، وأما الاختلاف العملي وهو الاختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الاختلاف .
والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم [28] يدخلون في النوعين . والملوك الذين يتقاتلون [29] على محض الدنيا يدخلون في الثاني . والذين يتكلمون في العلم ، ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ، ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ، ولا بلسان ، هؤلاء هم أهل العلم ، وهؤلاء خطؤهم مغفور [ ص: 280 ] لهم وليسوا مذمومين ، إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور ، فيكون ذلك من ذنوبهم ; فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره ، وقد شرع الله - تعالى - أن نسأله ذلك في كل صلاة ، وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير ، وكل أحد محتاج إلى الدعاء به ، فلهذا أوجبه الله - تعالى - على العبد في كل صلاة .
فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا ، مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق ، فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده ، فيثبته أو ينفيه ، ويحبه أو يبغضه ، ويأمر به أو ينهى عنه ، ويحمده أو يذمه . وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا ، أو سمع [30] ذم الطائفة الفلانية مجملا ، وهو لا يعرف تفاصيل الأمور : من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ، ومن كان متوسطا في الكلام ، لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ، ويقبله بعبارة [31] ، ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث ، وفيها تلك المقالات التي كان يذمها ، فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم ، وقد ذكروها [32] بعبارة أخرى ، أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك .
[ ص: 281 ] وهذا مما يوجد كثيرا ، والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء [33] يعظم أئمة ، ويذم أقوالا ، قد يلعن قائلها أو يكفره ، وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ، ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل ، وكثير منها يكون قد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعرف ذلك .
فإن كان ممن قبلها من المتكلمين [34] تقليديا ، فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم ، فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أئمتهم قلدهم ، وإن ظن أن الأئمة أجل قدرا وأعرف بالحق [35] وأتبع للرسول قلدهم ، وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء [36] الحديث بخلافه [37] بقي في الحيرة ، وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض ، وليس عنده ما يبني عليه ، وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما ; فإن التقليد لا يورث الجزم ، فإذا جزم بأن الرسول قاله ، وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق ، جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام .
وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض ، وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض ، هو من [38] أنفع الأمور ; فإنه ما منهم إلا من قد [39] فضل مقالته طوائف ، فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه [ ص: 282 ] المقالة عرف فسادها ، فكان في ذلك نهي عما فيها من المنكر والباطل .
وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك [40] ، فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل ، فيتقي الباطل الذي معهم . ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول : إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين ، وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء ، وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة ، إذ هداه الصراط المستقيم ، وجنبه صراط أهل البغي والضلال .
وإن لم يتبين له ، كان امتناعه من موافقة هؤلاء على ضلالهم ، وهؤلاء على ضلالهم ، نعمة في حقه ، واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا ، وأمسك عن الكلام في تلك المسألة ، وكانت من جملة ما لم يعرفه ; فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به ، وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام ، بل والعربية والطب وغير ذلك ، ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق .