الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 119 ] فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وجعل الأمر شورى بعده ، وخالف فيه من تقدمه ؛ فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ، ولا نص على إمام بعده ، بل تأسف على سالم مولى أبي [3] حذيفة ، وقال : لو كان حيا لم يختلجني فيه شك ، وأمير المؤمنين علي حاضر . [4]

                  وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول [5] ، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول . ثم طعن [6] في كل واحد ممن اختاره للشورى ، وأظهر أنه يكره أن يتقلد [7] أمر المسلمين ميتا كما تقلده [8] حيا . ثم تقلده [ ميتا ] [9] بأن جعل الإمامة في ستة ، ثم ناقص [10] فجعلها في أربعة ، ثم في ثلاثة ، ثم في واحد ، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار ، بعد أن وصفه [ ص: 120 ] بالضعف والقصور ، ثم قال : إن اجتمع أمير المؤمنين [11] وعثمان ، فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف ، لعلمه أن عليا [12] وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد [13] ، وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر [14] عن أخيه وهو عثمان وابن عمه [15] ، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام [16] ، مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة [17] ، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم [18] ، وأمر بقتل من خالف الثلاثة [ الذين بينهم ] عبد الرحمن [19] ، وكل ذلك مخالف للدين .

                  وقال لعلي : وإن [20] وليتها - وليسوا فاعلين [21] - لتركبنهم على المحجة البيضاء ، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها ، قال لعثمان : إن وليتها لتركبن آل أبي معيط [22] على رقاب الناس ، وإن [23] فعلت لتقتلن . وفيه إشارة إلى الأمر بقتله " .

                  [ ص: 121 ] والجواب : أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين : إما كذب في النقل ، وإما قدح في الحق ، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق ، وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر - رضي الله عنه ، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله .

                  ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول ، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت ، فيقولون : ما وقعت ، وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت ، فيقولون : كانت ، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح ، فيقولون : هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد ، فيقولون : هي خير وصلاح ؛ فليس لهم لا [24] عقل ولا نقل ، بل لهم نصيب من قوله : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ سورة الملك : 10 ] .

                  وأما قول الرافضي : " وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه " .

                  فالجواب : أن الخلاف نوعان : خلاف تضاد ، وخلاف تنوع ، فالأول : مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر ، والنوع الثاني : مثل القراءات التي يجوز كل منها ، وإن كان هذا يختار قراءة ، وهذا يختار قراءة ، كما ثبت في الصحاح ، بل استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ ص: 122 ] " إن القرآن نزل [25] على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف " [26] .

                  وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان ، فقرأها هذا على وجه ، وهذا على وجه آخر ، فقال لكليهما : " هكذا أنزلت " [27] .

                  ومن هذا الباب أنواع التشهدات كتشهد ابن مسعود الذي أخرجاه في الصحيحين ، وتشهد أبي موسى الذي رواه مسلم ، وألفاظهما متقاربة ، وتشهد ابن عباس الذي رواه مسلم ، وتشهد عمر الذي علمه الناس على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم ، وتشهد ابن عمر وعائشة وجابر اللواتي [28] [ ص: 123 ] رواها أهل السنن عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [29]

                  فكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو سائغ وجائز ، وإن اختار كل من الناس بعض التشهدات : إما لكونه هو الذي علمه ولاعتياده إياه ، وإما لاعتقاده رجحانه من بعض الوجوه .

                  وكذلك الترجيع في الآذان وترك [30] الترجيع ؛ فإن الأول قد ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة ، وروي في أوله التكبير مرتين ، كما رواه مسلم ، وروي أربعا كما رواه أبو داود ، وترك الترجيع هو الذي رواه أهل [ ص: 124 ] السنن في أذان بلال [31] .

                  وكذلك وتر الإقامة هو الذي ثبت في أذان بلال ، وشفع الإقامة ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة ، فأحمد وغيره من فقهاء الحديث أخذوا بأذان بلال وإقامته ، والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال ، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة [32] .

                  وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك ، لاعتقاده [33] أنه لم يثبت كونه سن في الأذان ، فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة .

                  وكذلك أنواع صلاة الخوف ، فإنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أنواع متعددة ، كصلاة ذات الرقاع وصلاة عسفان وصلاة نجد ، فإنه صلى بهم بعسفان جماعة صلاة [34] واحدة ، لكن جعلهم صفين ، فالصف الواحد ركعوا معه جميعا ، وسجد معه الصف الأول ، وتخلف الصف [35] [ ص: 125 ] الآخر عن المتابعة ليحرسوا ، ثم أتموا لأنفسهم ، وفي الركعة الثانية بالعكس ، فكان في ذلك من خلاف الصلاة المعتادة ، تخلف أحد الصفين عن السجود معه لأجل الحرس ، وهذه مشروعة إذا كان العدو وجاه القبلة .

                  وصار هذا أصلا للفقهاء في تخلف المأموم [36] لعذر فيما دون الركعة ، كالزحمة والنوم والخوف وغير ذلك : أنه لا يبطل الصلاة ، وأنه يفعل ما تخلف عنه .

                  وأكثر الصلوات كان يجعلهم طائفتين ، وهذا يتعين إذا كان العدو في غير جهة الكعبة [37] فتارة يصلي بطائفة ركعة ، ثم يفارقونه [38] ويتمون لأنفسهم ، ثم يصلي بالطائفة الثانية الركعة الثانية ، ويتمون لأنفسهم قبل سلامه فيسلم بهم ، فيكون الأولون أحرموا معه ، والآخرون سلموا معه ، كما صلى بهم في ذات الرقاع ، وهذه أشهر الأنواع ، وأكثر الفقهاء يختارونها ، لكن منهم من يختار أن تسلم الثانية بعده كالمسبوق ، كما يروى عن مالك ، والأكثرون يختارون ما ثبت به النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، ولأن المسبوق قد صلى غيره مع الإمام [39] الصلاة كلها فيسلم بهم ، بخلاف هذا ، فإن الطائفة الأولى لم تتم معه الصلاة ، فلا يسلم إلا بهم ، ليكون تسليمه بالمأمومين .

                  [ ص: 126 ] فإن في السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم " فهذا مروي عن علي وغيره [40] .

                  ومنها صلاة نجد : صلى بطائفة ركعة ، ثم ذهبت إلى وجاه العدو ، وجاءت [41] الطائفة الثانية فصلى بهم الثانية ، ثم ذهبوا إلى وجاه العدو ، ورجع الأولون فأتموا بركعة [42] ، ثم رجع هؤلاء فأتموا بركعة [43] .

                  وهذه يختارها أبو حنيفة لأنها على وفق القياس عنده ، إذ ليس فيها إلا العمل الكثير واستدبار القبلة [44] لعذر ، وهو يجوز ذلك لمن سبقه الحدث ، ومنها صلوات [45] أخرى .

                  والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره : أن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو جائز ، وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع [46] .

                  ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، كاستفتاح أبي هريرة الذي [ ص: 127 ] رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصحيحين ، واستفتاح علي بن أبي طالب الذي رواه مسلم ، واستفتاح عمر الذي كان يجهر به في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه الناس ، متفق عليه ، وهو في السنن مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من الاستفتاحات [47] .

                  ومن ذلك صفات الاستعاذة ، وأنواع الأدعية في آخر الصلاة ، وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به .

                  ومن ذلك صلاة التطوع : يخير فيها بين القيام والقعود ، ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة [48] إلى أمثال ذلك .

                  ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل [49] في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى [50] اليوم الثالث .

                  وهذا الاختلاف قسمان : أحدهما يكون [51] الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما ، والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة .

                  وتخيير المتصرف لغيره هو من هذا الباب ، كولي اليتيم ، وناظر الوقف ، والوكيل ، والمضارب ، والشريك ، وأمثال ذلك ممن تصرف [52] [ ص: 128 ] لغيره ؛ فإنه إذا كان مخيرا بين هذا النقد وهذا النقد ، أو بين النقد والنسيئة ، أو بين ابتياع هذا الصنف وهذا الصنف ، أو البيع في هذا السوق وهذا السوق ، فهو تخيير مصلحة واجتهاد ، فليس له أن يعدل عما يراه أصلح لمن ائتمنه ، إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة تسوغ له تركه .

                  ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين ، كالأسير الذي يخير فيه بين القتل والاسترقاق ، وكذلك بين المن والفداء عند أكثر العلماء .

                  ولهذا استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فيهم يوم بدر ، فأشار عليه أبو بكر - رضي الله عنه - بأخذ الفداء ، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم وعيسى ، وأشار عليه عمر - رضي الله عنه - بالقتل ، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنوح وموسى ، ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به ، بل مدحه وشبهه بالأنبياء [53] . ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل .

                  وكذلك اجتهاد ولي الأمر فيمن يولي ، فعليه أن يختار أصلح من يراه ، ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا ، كما أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان رأيه أن يولي خالد بن الوليد في حروبه ، وكان عمر يشير عليه بأن يعزله ، فلا يعزله ، ويقول : إنه سيف سله الله على المشركين ، ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح ، وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته ؛ فإن أبا بكر كان فيه لين ، وعمر كان فيه [ ص: 129 ] شدة ، وكانا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  وروي عنه أنه قال : " إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما " [54] . وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بعض مغازيه : " إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا " . [55] .

                  وفي رواية في الصحيح " كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " أليس فيهم أبو بكر وعمر ؟ إن يطيعوهما [ فقد رشدوا ورشدت أمتهم ، وإن يعصوهما ] [56] فقد غووا وغوت أمتهم " قالها ثلاثا [57] .

                  [ ص: 130 ] وقد روى مسلم في صحيحه [58] من حديث [ ابن عباس عن ] عمر [59] قال : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه وهم [60] ثلاثمائة وتسعة عشر [61] رجلا ، فاستقبل رسول الله [62] - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، ثم مد يديه فجعل [63] يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني [64] ما وعدتني ، اللهم إن تهلك [65] هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل [66] القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه [67] ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه [68] ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك [69] مناشدتك ربك ، [ فإنه ] [70] سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ سورة الأنفال : 9 ] فأمده الله بالملائكة . قال أبو زميل : فحدثني ابن عباس قال : بينما رجل من [ ص: 131 ] المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم [71] ، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا قد [72] خطم [73] أنفه وشق وجهه كضربة السوط [74] . فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك [75] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " صدقت ، ذلك [76] من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين . فقال [77] أبو زميل : قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : " ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ " فقال أبو بكر : [ يا نبي الله ] [78] هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون [79] لنا قوة على المشركين [80] ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قلت : لا والله يا رسول الله ما أرى [ ص: 132 ] الذي رأى أبو بكر ، ولكني [81] أرى أن تمكننا [82] فنضرب [83] أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكني [84] من فلان - نسيب [85] . لعمر - فأضرب عنقه ؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها [86] ، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال [87] أبو بكر ، ولم يهو ما قلت [88] ، فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر [ قاعدين ] [89] يبكيان . قلت [90] : يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك [91] ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبكي للذي عرض علي أصحابك [92] من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ( [93] شجرة قريبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فأنزل الله - تعالى [94] - [ ص: 133 ] ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) [95] الآية [ سورة الأنفال : 67 ] " قال [96] : " فأحل الله لهم الغنيمة " [97] .

                  ورواه عبد الله بن مسعود وقال فيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ سورة إبراهيم : 36 ] أو كمثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ سورة المائدة : 118 ] وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] " وقال : " يا عمر كمثل موسى [98] قال : ( واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ سورة يونس : 88 ] [99] " .

                  [ ص: 134 ] وقد روي هذا المعنى من حديث أم سلمة وابن عباس وغيرهما .

                  وقد روى أحمد في المسند من حديث أبي معاوية ، ورواه ابن بطة ، ورويناه في جزء ابن عرفة عن أبي معاوية ، وهذا لفظه قال [100] : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تقولون في هؤلاء الأسارى [101] ؟ " فقال [102] أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستأن بهم ، لعل الله يتوب [103] عليهم . وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك [104] ، قربهم واضرب أعناقهم " فذكر الحديث . قال : " فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليهم شيئا . قال : فخرج رسول [ ص: 135 ] الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن مثلك [105] يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ سورة إبراهيم : 36 ] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ سورة المائدة : 118 ] وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ سورة نوح : 26 ] وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال : ( واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ سورة يونس : 88 ] .

                  وروى ابن بطة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي ابن خالد عن إسماعيل بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : " لولا أنكما تختلفان علي ما خالفتكما " [106] .

                  وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي - رضي الله عنه - .

                  وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا جرير ، عن سفيان ، عن عبد الله بن زياد ، عن حدير [107] ، قال : " قدم أبو إسحاق السبيعي [108] الكوفة ، قال لنا شمر بن [ ص: 136 ] عطية [109] : قوموا إليه [110] ، فجلسنا إليه ، فتحدثوا ، فقال أبو إسحاق : خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما ، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ، ولا والله ما أدري ما يقولون " .

                  وقال : حدثنا النيسابوري ، حدثنا أبو أسامة الحلبي ، حدثنا أبي ، حدثنا ضمرة ، عن سعيد بن حسن [111] ، قال : سمعت ليث بن أبي سليم [112] يقول : أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا .

                  وقال أحمد بن حنبل : " حدثنا ابن عيينة ، عن خالد بن سلمة [113] ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة " . ( * ومسروق من أجل تابعي الكوفة ، وكذلك قال طاوس : " حب [ ص: 137 ] أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة * ) " . [114] وقد روي ذلك عن ابن مسعود .

                  وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر ، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " . [115] وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة ، قيل : إنها تبلغ ثمانين طريقا .

                  وقد رواه [116] البخاري عنه [ في صحيحه ] [117] من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول :

                  ولو [118] كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي [119] بسلام

                  وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري ، [ وهو همداني ] [120] عن منذر [ وهو همداني ] [121] عن محمد ابن الحنفية قال : قلت لأبي : يا أبت ، من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : يا بني أوما تعرف ؟ فقلت : لا . قال : أبو بكر . فقلت : ثم من ؟ قال : عمر . وهذا يقوله لابنه بينه وبينه ، ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية ويرويه عن أبيه خاصة ، وقاله على المنبر .

                  [ ص: 138 ] وعنه أنه كان يقول : " لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري " [122] .

                  وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " [123] .

                  ولهذا كان أحد قولي العلماء - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها . وهذا أظهر القولين . كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم .

                  وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها ، فهو الضحوك القتال ، وهو نبي الرحمة ، ونبي الملحمة . بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ سورة الفتح : 29 ] [ وقوله تعالى ] [124] : ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ سورة المائدة : 54 ] . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين شدة هذا ولين هذا ، فيأمر بما هو العدل [125] ، وهما يطيعانه ، فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة ، فلما قبض الله نبيه ، وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة ، كان من كمال أبي بكر - رضي الله عنه - أن [126] يولي [ ص: 139 ] الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ، ويخلط الشدة باللين ، فإن مجرد اللين يفسد ، ومجرد الشدة تفسد ، ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان [127] يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك .

                  وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره . حتى روي أن عمر قال [ له ] [128] : يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تألف الناس . فقال : علام أتألفهم : أعلى حديث مفترى ؟ أم على شعر مفتعل ؟ .

                  وقال أنس : خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنا لكالثعالب ، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود .

                  وأما عمر - رضي الله عنه - فكان شديدا في نفسه ، فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره ، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي عبيد الثقفي ، والنعمان بن مقرن ، وسعيد بن عامر ، وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد ، الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد [ وأمثاله ] [129] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية