لا يخلو
nindex.php?page=treesubj&link=20431_20446المنسوب إلى البدعة أن يكون : مجتهدا فيها ، أو مقلدا .
والمقلد : إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر ، وإما مقلد له فيه من غير نظر ، كالعامي الصرف .
فهذه ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول على ضربين :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=20431أن يصح كونه مجتهدا ، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات ، وإنما تسمى غلطة أو زلة; لأن صاحبها لم يقصد
[ ص: 194 ] اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب; أي : لم يتبع هواه ، ولا جعله عمدة ، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق; أذعن له وأقر به .
ومثاله ما يذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16735عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أنه كان يقول بالإرجاء ، ثم رجع عنه ، وقال : " وأول ما أفارق غير شاك أفارق ما يقول
المرجئون " .
وذكر
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=17364يزيد بن صهيب الفقير; قال : " كنت قد شغفني رأي من رأي
الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس " .
قال : " فمررنا على
المدينة ، فإذا
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله يحدث القوم [ وهو ] جالس إلى سارية - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : " وإذا هو قد ذكر
الجهنميين " .
قال : " فقلت له : يا صاحب رسول الله ! ما هذا الذي تحدثون والله يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=192إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) ، و
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) فما هذا الذي تقولون ؟ !
قال : فقال : " أفتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قال : فهل سمعت بمقام
محمد صلى الله عليه وسلم ؟ يعني : الذي يبعثه الله فيه ، قلت : نعم ، قال : فإنه مقام
محمد [ ص: 195 ] صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج " .
قال : " ثم نعت وضع الصراط ومرر الناس عليه " .
قال : " وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك " .
قال : " غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها " .
قال : " يعني : فيخرجون كأنهم عيدان السماسم ، فيدخلون نهرا من أنهار الجنة ، فيغتسلون فيه ، فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا ، وقلنا : ويحكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فرجعنا ، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد " ، أو كما قال .
ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث ، وثقه
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين nindex.php?page=showalam&ids=12013وأبو زرعة ، وقال
أبو حاتم : " صدوق " ، وخرج عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة ; إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه من أنه كان يقول بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب ، حتى كفره
القاضي أبو بكر وغيره .
وحكى
القتيبي عنه : كان يقول : " إن القرآن يدل على الاختلاف ، فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب ، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ، ومن قال بهذا فهو مصيب; لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين " .
وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الإجبار ؟ قال : " كل مصيب ، هؤلاء قوم عظموا الله ، وهؤلاء قوم نزهوا الله " .
[ ص: 196 ] قال : " وكذلك القول في الأسماء ، فكل من سمى الزاني مؤمنا ، فقد أصاب ، ومن سماه كافرا; فقد أصاب ، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ، ومن قال هو كافر وليس بمشرك; فقد أصاب; لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني " .
قال : " وكذلك السنن المختلفة ، كالقول بالقرعة وخلافه ، والقول بالسعاية وخلافه ، وقتل المؤمن بالكافر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب " .
قال : " ولو قال قائل : إن القاتل في النار ، كان مصيبا ، ولو قال : في الجنة ، كان مصيبا ، ولو وقف وأرجأ أمره; كان مصيبا ، إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبده بذلك ، وليس عليه علم الغيب " .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12211ابن أبي خيثمة : أخبرني
سليمان بن أبي شيخ ، قال : " كان
عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريق العنبري البصري اتهم بأمر عظيم ، وروي عنه كلام رديء " .
قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره
ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب ، وقال : " إذا أرجع وأنا من الأصاغر ، ولأن أكون ذنبا في الحق ، أحب إلي أن أكون رأسا في الباطل " . اهـ .
فإن ثبت عنه ما قيل فيه; فهو على جهة الزلة من العالم ، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق; لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ، ولم يتبع عقله ، ولا صادم الشرع بنظره ، فهو أقرب من مخالفة الهوى ، ومن ذلك الطريق والله
[ ص: 197 ] أعلم وفق إلى الرجوع إلى الحق .
وكذلك
nindex.php?page=showalam&ids=17364يزيد الفقير فيما ذكره عنه ، لا كما عارض
الخوارج nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، إذ طالبهم بالحجة ، فقال بعضهم : لا تخاصموه; فإنه ممن قال الله فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58بل هم قوم خصمون ) ، فرجحوا المتشابه على المحكم ، وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم .
[ الثاني : ]
nindex.php?page=treesubj&link=20431وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين ; فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه في الأصل ، وهو التبعية ، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء ، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ، ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد ، حتى قال
الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين ! فكيف إذا انضاف إليه الهوى من أصل ، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل في ظنه شرعي على صحة ما ذهب إليه ؟ ! فيتمكن الهوى من قلبه تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه ، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه; كما جاء في حديث الفرق ، فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سن سنة سيئة .
ومن أمثلته أن
nindex.php?page=treesubj&link=28833_21385الإمامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى الله عليه وسلم ، وتزعم أنه مثل النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة ، بناء على أصل متوهم ، فوضعوه على أن الشريعة أبدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع
[ ص: 198 ] المكلفين ، إما بالمشافهة ، أو بالنقل ممن شافه المعصوم ، وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادي الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي ، بل بشبهة زعموا أنها عقلية ، وشبه من النقل باطلة ، إما في أصلها ، وإما في تحقيق مناطها .
وتحقيق ما يدعون وما يرد عليهم به مذكور في كتب الأئمة ، وهو يرجع في الحقيقة إلى دعاو ، وإذا طولبوا بالدليل عليها; سقط في أيديهم ، إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات .
nindex.php?page=treesubj&link=28833وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة ، وأنه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف; لأن الله يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولا يزالون مختلفين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إلا من رحم ربك ) ، ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه وارث ، وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم ، وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه ، فإن طولبوا بالدليل على العصمة; لم يأتوا بشيء .
غير أن لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان .
قال
ابن العربي في كتاب " العواصم " :
" خرجت من بلادي على الفطرة ، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا ، حيث بلغت هذه الطائفة يعني :
الإمامية والباطنية من
nindex.php?page=treesubj&link=28833فرق الشيعة فهي أول بدعة لقيت ، ولو فجأتني بدعة مشبهة ، كالقول بالمخلوق ، أو نفي
[ ص: 199 ] الصفات ، أو الإرجاء; لم آمن ، فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر ، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ، ولبثت بينهم ثمانية أشهر .
ثم خرجت إلى
الشام ، فوردت
بيت المقدس ، فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين مدرسة الشافعية
بباب الأسباط ، وأخرى للحنفية وكان فيها من رءوس العلماء ورءوس المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير ، فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا
أبي بكر الفهري وغيره من
أهل السنة .
ثم نزلت إلى
الساحل لأغراض ، وكان مملوءا من هذه النحل
الباطنية والإمامية ، فطفت في
مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ، ونزلت
عكا ، وكان رأس
الإمامية بها حينئذ
أبو الفتح العكي ، وبها من
أهل السنة شيخ يقال له
الفقيه الديبقي .
فاجتمعت
بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين ، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ، ولع بي ، وفيهم لعمر الله ، وإن كانوا على باطل انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ، فكان لا يفارقني ، ويساومني الجدال ، ولا يفاترني ، فتكلمت على مذهب
الإمامية والقول بالتعميم من المعصوم بما يطول ذكره .
ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن لله في عباده أسرارا وأحكاما ، والعقل لا يستقل بدركها ، فلا يعرف ذلك إلا من قبل
nindex.php?page=treesubj&link=28833_21385إمام معصوم ! فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد ؟ فقال
[ ص: 200 ] لي : مات وليس هذا بمذهبه ، ولكنه تستر معي . فقلت : هل خلفه أحد ؟ فقال : خلفه وصيه علي ، قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه ؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند ، قلت : فهل أنفذه حين قدر ؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت; إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى ، فلم يمكن إلا المدارة; لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال ، قلت : وهذه المدارة حق أم لا ؟ فقال : باطل أباحته الضرورة ، قلت : فأين العصمة ؟ [ قال : ] إنما تغني العصمة مع القدرة . قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا ؟ قال : لا . قلت : فالدين مهمل ، والحق مجهول مخمل ؟ قال : سيظهر . قلت : بمن ؟ قال : بالإمام المنتظر . قلت : لعله الدجال ، فما بقي أحد إلا ضحك .
وقطعنا الكلام على غرض مني; لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده .
ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام :
nindex.php?page=treesubj&link=28833أن الإمام إذا أوعز إلى من لا قدرة له; فقد ضيع; فلا عصمة له .
وأعجب منه أن الباري تعالى على مذهبه إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم ، وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم ، فكأنه ما علمه وما بعثه . وهذا عجز منه وجور ، لا سيما على مذهبهم ! .
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة .
وشاع الحديث ، فرأى رئيس
الباطنية المسمين
بالإسماعيلية أن يجتمع معي ، فجاءني
أبو الفتح إلى مجلس
الفقيه الديبقي ، وقال : إن
[ ص: 201 ] رئيس
الإسماعيلية رغب في الكلام معك ، فقلت : أنا مشغول . فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه ، وهو
محرس الطبرانيين ، مسجد في قصر على البحر ، وتحامل علي ، فقمت ما بين حشمة وحسبة ، ودخلت
قصر المحرس ، وطلعنا إليه ، فوجدتهم قد اجتمعوا في
زاوية المحرس الشرقية ، فرأيت النكر في وجوههم ، فسلمت ثم قصدت جهة المحراب ، فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم .
فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم ، إن كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا ، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس ، فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه ، وأنشد في سري :
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذني الله منها .
فلما سلمت ، استقبلتهم ، وسألتهم عن أحوالهم عادة ، وقد اجتمعت إلي نفسي ، وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين .
فقال لي
أبو الفتح وأشار إلى فتى حسن الوجه : هذا سيد الطائفة ومقدمها ، فدعوت له ، فسكت ، فبادرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إلي كلامك ، وأنت تقول : قال الله وفعل ! فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه ؟ ! أخبرني واخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة ، وقد احتد نفسا ، وامتلأ غيظا ، وجثا على ركبتيه ، ولم أشك أنه
[ ص: 202 ] لا يتم الكلام إلا وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب .
فعمدت بتوفيق الله إلى كنانتي ، واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه ، فسقط لليدين وللفم .
وشرح ذلك أن
nindex.php?page=showalam&ids=13779الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال :
كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام ، فدخلت يوما إلى
الري ، ودخلت جامعها أول دخولي ، واستقبلت سارية أركع عندها ، وإذا بجواري رجلان يتذاكران علم الكلام ، فتطيرت بهما ، وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره ، وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما ، فعلق بي من قولهما : إن هؤلاء
الباطنية أسخف خلق الله عقولا ، وينبغي للنحرير أن لا يتكلف لهم دليلا ، ولكن يطالبهم بـ " لم " ، فلا قبل لهم بها ، وسلمت مسرعا .
وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من
الإسماعيلية القناع في الإلحاد ، وجعل يكاتب
وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين
محمد إلا بالمعجزة ، فإن أظهرتموها; رجعنا إليكم .
وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنة ، فورد على
وشمكير رسولا ، فقال له : إنك أمير ، ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العوام ولا تقلد في عقيدتها ، وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين .
[ ص: 203 ] فقال
وشمكير : اختر رجلا من أهل مملكتي ، ولا أنتدب للمناظرة بنفسي ، فيناظرك بين يدي . فقال له الملحد : أختار
nindex.php?page=showalam&ids=13779أبا بكر الإسماعيلي . لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد ، وإنما كان إماما في الحديث ، ولكن كان
وشمكير بعامية فيه ( يعتقد ) أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم فقال
وشمكير : ذلك مرادي ، فإنه رجل جيد .
فأرسل إلى
أبي بكر الإسماعيلي بجرجان ليرحل إليه إلى
غزنة ، فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين ، وقال : سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهبا الإسماعيلي الحافظ مذهبا ، ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك; لئلا يتهمهم ، فلجئوا إلى الله في نصر دينه .
قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جاءني البريد ، وأخذت في المسير ، وتدانت لي الدار; قلت : إنا لله ، وكيف أناظر فيما لا أدري ؟ ! هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله على دينه ؟ ! ندمت على ما سلف من عمري إذ لم أنظر في شيء من علم الكلام .
ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع
الري ، فقويت نفسي ، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي ، وبلغت البلد ، فتلقاني الملك ، ثم جميع الخلق ، وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب ، وقال الملك للباطني : أذكر قولك يسمعه الإمام ، فلما أخذ في ذكره واستوفاه; قال له الحافظ : لم ؟ سمعها الملحد; قال : هذا إمام قد عرف مقالتي; فبهت .
قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت ، وأمرت بقراءة علم الكلام ، وعلمت أنه عمدة من عمد الإسلام .
[ ص: 204 ] قال
ابن العربي : " وحين انتهى به الأمر إلى ذلك المقام; قلت : إن كان في الأجل نفس ، فهذا شبيه بيوم
الإسماعيلي .
فوجهت إلى
أبي الفتح الإمام ، وقلت له : لقد كنت في لا شيء ، ولو خرجت من
عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم; ما رحلت إلا عريا عن نادرة الأيام; وانظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته ، حيث قال لي : أي شيء هو الله ؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله ، ولكن بقيت هاهنا نكتة لا بد من أن نأخذها اليوم عنه ، وتكون ضيافتنا عنده : لم قلت : أي شيء هو الله ، فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي ، وتركت الهمزة وهل وكيف وأنى وكم وما ، هي أيضا من ثواني حروف الاستفهام ، وعدلت عن اللام من حروفه ؟ ! وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ، وهو أن لـ " أي " معنيين في الاستفهام ، فأي المعنيين قصدت بها ؟ ولم سألت بحرف محتمل ؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد ؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا .
فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام ، وانبسطت فيه ، وهو يتغير; حتى اصفر آخرا من الوجل ، كما اسود أولا من الحقد . ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه ، وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ، ما رأينا مثله قط ، وهم ما رأوا واحدا به رمق ( إلا أهلكوه ) ، لأن الدولة لهم ، ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك
الشام وأن والي
عكا كان يحضرنا; ما تخلصت منهم في العادة أبدا .
[ ص: 205 ] وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي ، قلت : هذا مجلس عظيم ، وكلام طويل ، يفتقر إلى تفصيل ، ولكن نتواعد إلى يوم آخر ، وقمت وخرجت ، فقاموا كلهم معي ، وقالوا : لا بد أن تبقى قليلا . فقلت : لا . وأسرعت حافيا ، وخرجت على الباب أعدو ، حتى أشرفت على قارعة الطريق ، وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة ، حتى خرجوا بعدي ، وأخرجوا لي ( لايكي ) ، ولبستها ، ومشيت معهم متضاحكا ، ووعدوني بمجلس آخر ، فلم أوف لهم ، وخفت وفاتي في وفائي " .
قال
ابن العربي : " وقد قال لي أصحابنا النصرية
بالمسجد الأقصى : إن
nindex.php?page=showalam&ids=14922شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من
الشيعة ، فشكا إليه فساد الخلق ، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر ، فقال
نصر : هل لخروجه ميقات أم لا ؟ قال الشيعي : نعم ، قال له
أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول ؟ قال : معلوم . قال
نصر : ومتى يكون ؟ قال : إذا فسد الخلق . قال
أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم ، فلو فسدتم لخرج; فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا; فبهت .
وأظنه سمعها عن شيخه
أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد .
انتهى ما حكاه
ابن العربي وغيره ، وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم ، وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة .
القسم الثاني : يتنوع أيضا :
[ ص: 206 ] وهو
nindex.php?page=treesubj&link=20446الذي لم يستنبط بنفسه ، وإنما اتبع غيره من المستنبطين ، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها ، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه; لانقداحها في قلبه ، فهو مثل الأول ، وإن لم يصر إلى تلك الحال ، ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى .
وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ، ولو على أعم ما يكون ، فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عاميا ، لأنه عرض للاستدلال وهو عالم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ، ومع ذلك; فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل وفرق بينهما في التمثيل .
إن الأول : أخذ شبهات مبتدعة ، فوقف وراءها ، حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم ، تبلد وانقطع ، أو خرج إلى ما لا يعقل .
وأما الثاني : فحسن الظن بصاحب البدعة ، فتبعه ، ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به ، إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة ، وهذا القسم في العوام كثير .
فمثال الأول حال
حمدان بن قرمط المنسوب إليه
القرامطة ، إذ كان أحد دعاة
الباطنية ، فاستجاب له جماعة نسبوا إليه .
وكان رجلا من أهل
الكوفة مائلا إلى الزهد ، فصادفه أحد دعاة
الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه ، فقال له
حمدان وهو لا يعرفه : أراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية
حمدان ، فقال له
حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح
[ ص: 207 ] به عن تعب المشي ، فلما رآه مائلا إلى الديانة ، أتاه من ذلك الباب ، وقال : إني لم أومر بذلك ، فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر ؟ فقال : نعم ، فقال
حمدان : وبأمر من تعمل ؟ قال : بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة ، قال : ذلك هو رب العالمين ، قال : صدقت ، ولكن الله يهب ملكه من يشاء . قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها ؟ فقال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب ، فقال له
حمدان : أنقذني أنقذك الله ، وأفض علي من العلم ما تحييني ، فما أشد احتياجي لمثل ما ذكرته ! فقال له : وما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه ، فقال : فما عهدك ؟ فاذكره فإني ملتزم له . فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا .
فالتزم
حمدان عهده ، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله ، حتى استدرجه واستغواه ، واستجاب له في جميع ما ادعاه ، ثم انتدب للدعوة ، وصار أصلا من أصول هذه البدعة ، فسمي أتباعه
القرامطة .
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=104وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) ، الآية ، وقوله تعالى : )
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=72قال هل يسمعونكم إذ تدعون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=73أو ينفعونكم أو يضرون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=74قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) .
[ ص: 208 ] وحكى
المسعودي أنه كان في أعلى
صعيد مصر رجل من
القبط ممن يظهر دين النصرانية ، وكان يشار إليه بالعلم والفهم ، فبلغ خبره
nindex.php?page=showalam&ids=12267أحمد بن طولون ، فاستحضره ، وسأله عن أشياء كثيرة ، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد حضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ، فسألوه عن ذلك ؟
فقال : دليلي على صحتها وجود إياها متناقضة متنافية ، تدفعها العقول ، وتنفر منها النفوس ، لتباينها وتضادها ، لا نظر يقويها ، ولا جدل يصححها ، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل لها والفحص عنها ، ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا إليها وتدينوا بها ، مع ما ذكرت من تناقضها في العقل ، فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها ، إلا بدلائل شاهدوها وآيات ومعجزات عرفوها ، أوجب انقيادهم إليها والتدين بها .
فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها ؟
فقال : وهل يدرك ذلك أو تعلم غايته ؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة . ووصفهم للأقانيم والجوهر ، وهو الثالوثي ، وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا ؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالإنسان المحدث ، وما جرى في ولادته وصلبه وقتله ، وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب ، وبصق في وجهه ، ووضع على رأسه إكليل الشوك ، وضرب رأسه
[ ص: 209 ] بالقضيب ؟ وسمرت قدماه ، ونخز بالأسنة والخشب جنباه ؟ وطلب ( الماء ) فسقي الخل من بطيخ الحنظل ؟
فأمسكوا عن مناظرته ، لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده . اهـ .
والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل .
القسم الثالث : يتنوع أيضا ، وهو
nindex.php?page=treesubj&link=20446الذي قلد غيره على البراءة الأصلية ، فلا يخلو :
أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه ، بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره ، وتعظيمهم له بخلاف الغير .
أو لا يكون ثم من هو أولى منه ، لكن ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة .
فإن كان هناك منتصبون ، فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم; فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه ، بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين ، فهو غير معذور ، إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر ، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم .
وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم ، ولم ينظروا نظر المستبصر حتى لم يفرقوا بين الطريقين ، وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق ، فكذلك
[ ص: 210 ] أهل هذا النوع .
وقلما تجد من هذه صفته; إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد .
خرج
البغوي عن أبي
الطفيل الكناني أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا له بالبركة ، وأخذ بجبهته ، فنبتت شعرة بجبهته كأنها هلبة فرس . قال : فشب الغلام ، فلما كان زمن
الخوارج; أجابهم ، فسقطت الشعرة عن جبهته ، فأخذه أبوه ، فقيده وحبسه ، مخافة أن يلحق بهم ، قال : فدخلنا عليه ، فوعظنا [ ه ] وقلنا له : ألم تر بركة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت ؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم ، قال : فرد الله عز وجل الشعرة في جبهته إذ تاب .
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس ، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ، ففي تأثيمه نظر . ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم .
ونظيره مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=30584أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم ، واستقامة لما عليه أهل عصرهم ، من عبادة غير الله ، وما أشبه ذلك; لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين :
قسم غابت عليه الشريعة ، ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم ، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه ، وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة :
[ ص: 211 ] )
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .
وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله ، والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوا من الباطل ، فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين ، مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة ، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة ، فصار [ وا ] من أهلها . فكذلك ما نحن في الكلام عليه ، إذ لا فرق بينهما .
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان ؛ لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم .
وهذا إن ثبت قولا هكذا ، فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة ، فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول ، فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة ، وإن اقتصر على الأول ظهر عناده ، لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارئ ، وإذا لم يرضه; كان ذلك لهوى داخله ، وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه ، وهو إذا بلغ هذا المبلغ; لم يبعد أن ينتصر لمذهب صاحبه ، ويحسنه ، ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته ، وحكمه قد تقدم في القسم قبله .
فأنت ترى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع ، وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فيها ، وردوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وغطى على قلوبهم رين الهوى ، حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها;
[ ص: 212 ] كيف صارت شريعته صلى الله عليه وسلم حجة عليهم على الإطلاق والعموم ، وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم ، من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره ، وما ذاك إلا لقيام الحجة عليهم ، بمجرد بعثته وإرساله لهم مبينا للحق الذي خالفوه .
فمسألتنا شبيهة بذلك ، فمن أخذ بالحزم ، فقد استبرأ لدينه ، ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك ، وحسبنا الله .
لَا يَخْلُو
nindex.php?page=treesubj&link=20431_20446الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ أَنْ يَكُونَ : مُجْتَهِدًا فِيهَا ، أَوْ مُقَلِّدًا .
وَالْمُقَلِّدُ : إِمَّا مُقَلِّدٌ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُجْتَهِدُ دَلِيلًا وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالنَّظَرِ ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ ، كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=20431أَنْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا ، فَالِابْتِدَاعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فَلْتَةً وَبِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى غَلْطَةً أَوْ زَلَّةً; لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَقْصِدْ
[ ص: 194 ] اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ; أَيْ : لَمْ يَتَّبِعْ هَوَاهُ ، وَلَا جَعَلَهُ عُمْدَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ; أَذْعَنَ لَهُ وَأَقَرَّ بِهِ .
وَمِثَالُهُ مَا يُذْكَرُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16735عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، وَقَالَ : " وَأَوَّلُ مَا أُفَارِقُ غَيْرَ شَاكٍّ أُفَارِقُ مَا يَقُولُ
الْمُرْجِئُونَ " .
وَذَكَر
مُسْلِمٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17364يَزِيدَ بْنِ صُهَيْبٍ الْفَقِيرِ; قَالَ : " كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ
الْخَوَارِجِ ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ " .
قَالَ : " فَمَرَرْنَا عَلَى
الْمَدِينَةِ ، فَإِذَا
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ [ وَهُوَ ] جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : " وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ
الْجَهَنَّمِيِّينَ " .
قَالَ : " فَقُلْتُ لَهُ : يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ! مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=192إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) ، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ) فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ ؟ !
قَالَ : فَقَالَ : " أَفَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ يَعْنِي : الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّهُ مَقَامُ
مُحَمَّدٍ [ ص: 195 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ " .
قَالَ : " ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمُرُرَ النَّاسِ عَلَيْهِ " .
قَالَ : " وَأَخَافُ أَلَّا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَلِكَ " .
قَالَ : " غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا " .
قَالَ : " يَعْنِي : فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ ، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ ، فَرَجَعْنَا ، وَقُلْنَا : وَيْحَكُمْ ! أَتَرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! فَرَجَعْنَا ، فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ " ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَيَزِيدُ الْفَقِيرُ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَثَّقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابْنُ مَعِينٍ nindex.php?page=showalam&ids=12013وَأَبُو زُرْعَةَ ، وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ : " صَدُوقٌ " ، وَخَرَّجَ عَنْهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ .
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ كَانَ مِنْ ثِقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ ; إِلَّا أَنَّ النَّاسَ رَمَوْهُ بِالْبِدْعَةِ بِسَبَبِ قَوْلٍ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُصِيبٌ ، حَتَّى كَفَّرَهُ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ .
وَحَكَى
الْقُتَيْبِيُّ عَنْهُ : كَانَ يَقُولُ : " إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ ، وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ; لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ " .
وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ ؟ قَالَ : " كُلٌّ مُصِيبٌ ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ " .
[ ص: 196 ] قَالَ : " وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ ، فَكَلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِيَ مُؤْمِنًا ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا; فَقَدْ أَصَابَ ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فَاسِقٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ ، وَمَنْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ; فَقَدْ أَصَابَ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي " .
قَالَ : " وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ ، كَالْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ وَخِلَافِهِ ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ " .
قَالَ : " وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ ، كَانَ مُصِيبًا ، وَلَوْ قَالَ : فِي الْجَنَّةِ ، كَانَ مُصِيبًا ، وَلَوْ وَقَفَ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ; كَانَ مُصِيبًا ، إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْغَيْبِ " .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12211ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ : أَخْبَرَنِي
سُلَيْمَانُ بْن أَبِي شَيْخٍ ، قَالَ : " كَانَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْحَرِيقِ الْعَنْبَرِيِّ الْبَصْرِيِّ اتُّهِمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَلَامٌ رَدِيءٌ " .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي شَيْخٍ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ ، وَقَالَ : " إِذًا أَرْجِعُ وَأَنَا مِنَ الْأَصَاغِرِ ، وَلِأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ ، أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ " . اهـ .
فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ مَا قِيلَ فِيهِ; فَهُوَ عَلَى جِهَةِ الزَّلَّةِ مِنَ الْعَالِمِ ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا رُجُوعَ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْحَقِّ; لِأَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَّبِعْ عَقْلَهُ ، وَلَا صَادَمَ الشَّرْعَ بِنَظَرِهِ ، فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْهَوَى ، وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَاللَّهُ
[ ص: 197 ] أَعْلَمُ وُفِّقَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=17364يَزِيدُ الْفَقِيرُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ ، لَا كَمَا عَارَضَ
الْخَوَارِجَ nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إِذْ طَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تُخَاصِمُوهُ; فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) ، فَرَجَّحُوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ ، وَنَاصَبُوا بِالْخِلَافِ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ .
[ الثَّانِي : ]
nindex.php?page=treesubj&link=20431وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصِحَّ بِمِسْبَارِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ ; فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ ، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ الْجَهْلِ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْهَوَى الْبَاعِثُ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ ، إِذْ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ مَرْتَبَةُ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ، وَلِلنَّفْسِ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ يَعْسُرُ خُرُوجُ حُبِّ الرِّئَاسَةِ مِنَ الْقَلْبِ إِذَا انْفَرَدَ ، حَتَّى قَالَ
الصُّوفِيَّةُ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ ! فَكَيْفَ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الْهَوَى مِنْ أَصْلٍ ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَلِيلٌ فِي ظَنِّهِ شَرْعِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ؟ ! فَيَتَمَكَّنُ الْهَوَى مِنْ قَلْبِهِ تَمَكُّنًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ ، وَجَرَى مِنْهُ مَجْرَى الْكَلْبِ مِنْ صَاحِبِهِ; كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ ، فَهَذَا النَّوْعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ آثِمٌ فِي ابْتِدَاعِهِ إِثْمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28833_21385الْإِمَامِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ تَذْهَبُ إِلَى وَضْعِ خَلِيفَةٍ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَزَعُمُ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِصْمَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُتَوَهَّمٍ ، فَوَضَعُوهُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ لِجَمِيعِ
[ ص: 198 ] الْمُكَلَّفِينَ ، إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ ، أَوْ بِالنَّقْلِ مِمَّنْ شَافَهَ الْمَعْصُومَ ، وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا نَقْلِيٍّ ، بَلْ بِشُبْهَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا عَقْلِيَّةٌ ، وَشُبَهٍ مِنَ النَّقْلِ بَاطِلَةٍ ، إِمَّا فِي أَصْلِهَا ، وَإِمَّا فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا .
وَتَحْقِيقُ مَا يَدَّعُونَ وَمَا يُرُدُّ عَلَيْهِمْ بِهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ ، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى دَعَاوٍ ، وَإِذَا طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَيْهَا; سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ، إِذْ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28833وَأَقْوَى شُبَهِهِمْ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا أُعْطِيَ الْعِصْمَةَ كَمَا أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّهُ وَارِثٌ ، وَإِلَّا فَكَلُّ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمَرْحُومُ ، وَأَنَّهُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْحَقِّ دُونَ مَنْ سِوَاهُ ، فَإِنْ طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَى الْعِصْمَةِ; لَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ .
غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ مَذْهَبًا يُخْفُونَهُ وَلَا يُظْهِرُونَهُ إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ مَحْضٌ وَدَعْوَى بِغَيْرِ بُرْهَانٍ .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ " الْعَوَاصِمِ " :
" خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَلَمْ أَلْقَ فِي طَرِيقِي إِلَّا مُهْتَدِيًا ، حَيْثُ بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يَعْنِي :
الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28833فِرَقِ الشِّيعَةِ فَهِيَ أَوَّلُ بِدْعَةٍ لَقِيتُ ، وَلَوْ فَجَأَتْنِي بِدْعَةٌ مُشْبِهَةٌ ، كَالْقَوْلِ بِالْمَخْلُوقِ ، أَوْ نَفْيِ
[ ص: 199 ] الصِّفَاتِ ، أَوِ الْإِرْجَاءِ; لَمْ آمَنْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ .
ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى
الشَّامِ ، فَوَرَدْتُ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَأَلْفَيْتُ فِيهَا ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ حَلْقَةً وَمَدْرَسَتَيْنِ مَدْرَسَةِ الشَّافِعِيَّةِ
بِبَابِ الْأَسْبَاطِ ، وَأُخْرَى لِلْحَنَفِيَّةِ وَكَانَ فِيهَا مِنْ رُءُوسِ الْعُلَمَاءِ وَرُءُوسِ الْمُبْتَدِعَةِ وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ وَنَاظَرْتُ كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا
أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ .
ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى
السَّاحِلِ لِأَغْرَاضٍ ، وَكَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ
الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ ، فَطُفْتُ فِي
مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ ، وَنَزَلْتُ
عَكَّا ، وَكَانَ رَأْسَ
الْإِمَامِيَّةِ بِهَا حِينَئِذٍ
أَبُو الْفَتْحِ الْعَكِّيُّ ، وَبِهَا مِنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ
الْفَقِيهُ الدَّيِبقِيُّ .
فَاجْتَمَعْتُ
بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ كَثِيرَ الْعِلْمِ مُتَدَرِّبًا ، وَلِعَ بِي ، وَفِيهِمْ لَعَمْرُ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إِذَا ظَهَرَ ، فَكَانَ لَا يُفَارِقُنِي ، وَيُسَاوِمُنِي الْجِدَالَ ، وَلَا يُفَاتِرُنِي ، فَتَكَلَّمْتُ عَلَى مَذْهَبِ
الْإِمَامِيَّةِ وَالْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ .
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أَسْرَارًا وَأَحْكَامًا ، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهَا ، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=28833_21385إِمَامٍ مَعْصُومٍ ! فَقُلْتُ لَهُمْ : أَمَاتَ الْإِمَامُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّدٌ ؟ فَقَالَ
[ ص: 200 ] لِي : مَاتَ وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ ، وَلَكِنَّهُ تَسَتَّرَ مَعِي . فَقُلْتُ : هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ ؟ فَقَالَ : خَلَفَهُ وَصِيُّهُ عَلِيٌّ ، قُلْتُ : فَهَلْ قَضَى بِالْحَقِّ وَأَنْفَذَهُ ؟ قَالَ : لَمْ يَتَمَكَّنْ لِغَلَبَةِ الْمُعَانِدِ ، قُلْتُ : فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ ؟ قَالَ : مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ; إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً وَتَضْعُفُ أُخْرَى ، فَلَمْ يُمْكِنْ إِلَّا الْمُدَارَةُ; لِئَلَّا تَنْفَتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الِاخْتِلَالِ ، قُلْتُ : وَهَذِهِ الْمُدَارَةُ حَقٌّ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ ، قُلْتُ : فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ ؟ [ قَالَ : ] إِنَّمَا تُغْنِي الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ . قُلْتُ : فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : فَالدِّينُ مُهْمَلٌ ، وَالْحَقُّ مَجْهُولٌ مُخْمَلٌ ؟ قَالَ : سَيَظْهَرُ . قُلْتُ : بِمَنْ ؟ قَالَ : بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ . قُلْتُ : لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ .
وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي; لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ أُلْجِمَهُ فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ .
ثُمَّ قُلْتُ : وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ :
nindex.php?page=treesubj&link=28833أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ; فَقَدْ ضَيَّعَ; فَلَا عِصْمَةَ لَهُ .
وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى مَذْهَبِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إِلَّا بِمُعَلِّمٍ ، وَأَرْسَلَهُ عَاجِزًا مُضْطَرِبًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ . وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ ! .
فَرَأَوْا مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ .
وَشَاعَ الْحَدِيثُ ، فَرَأَى رَئِيسُ
الْبَاطِنِيَّةِ الْمُسَمَّيْنَ
بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي ، فَجَاءَنِي
أَبُو الْفَتْحِ إِلَى مَجْلِسِ
الْفَقِيهِ الدَّيِبقِيُّ ، وَقَالَ : إِنَّ
[ ص: 201 ] رَئِيسَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا مَشْغُولٌ . فَقَالَ : هُنَا مَوْضِعٌ مُرَتَّبٌ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ ، وَهُوَ
مَحْرَسُ الطَّبَرَانِيِّينَ ، مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ ، فَقُمْتُ مَا بَيْنَ حِشْمَةٍ وَحِسْبَةٍ ، وَدَخَلْتُ
قَصْرَ الْمَحْرَسِ ، وَطَلَعْنَا إِلَيْهِ ، فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي
زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ الشَّرْقِيَّةِ ، فَرَأَيْتُ النُّكْرَ فِي وُجُوهِهِمْ ، فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ .
فَلَعَمْرُ الَّذِي قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ ، إِنْ كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَبَدًا ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ ، فَأَقُولُ : هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي :
أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ وَهَلْ لَنَا سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ أَوْ سِوَى الْمَاءِ أَكْفَانُ
وَهِيَ كَانَتِ الشِّدَّةَ الرَّابِعَةَ مِنْ شَدَائِدِ عُمْرِي الَّذِي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا .
فَلَمَّا سَلَّمْتُ ، اسْتَقْبَلْتُهُمْ ، وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ، وَقُلْتُ : أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ .
فَقَالَ لِي
أَبُو الْفَتْحِ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ : هَذَا سَيِّدُ الطَّائِفَةِ وَمُقَدَّمُهَا ، فَدَعَوْتُ لَهُ ، فَسَكَتَ ، فَبَادَرَنِي وَقَالَ : قَدْ بَلَغَتْنِي مَجَالِسُكَ وَأُنْهِيَ إِلَيَّ كَلَامُكَ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ ! فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ ؟ ! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْمَخْرَقَةِ الَّتِي جَازَتْ لَكَ عَلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّعِيفَةِ ، وَقَدِ احْتَدَّ نَفْسًا ، وَامْتَلَأَ غَيْظًا ، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ
[ ص: 202 ] لَا يُتِمُّ الْكَلَامَ إِلَّا وَقَدِ اخْتَطَفَنِي أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْجَوَابِ .
فَعَمَدْتُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِلَى كِنَانَتِي ، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ ، فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ .
وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13779الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ قَالَ :
كُنْتُ أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ ، فَدَخَلْتُ يَوْمًا إِلَى
الرَّيِّ ، وَدَخَلْتُ جَامِعَهَا أَوَّلَ دُخُولِي ، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا ، وَإِذَا بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ ، فَتَطَيَّرْتُ بِهِمَا ، وَقُلْتُ : أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ ، وَجَعَلْتُ أُخَفِّفُ الصَّلَاةَ حَتَّى أَبْعُدَ عَنْهُمَا ، فَعَلِقَ بِي مِنْ قَوْلِهِمَا : إِنَّ هَؤُلَاءِ
الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا ، وَيَنْبَغِي لِلنِّحْرِيرِ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ لَهُمْ دَلِيلًا ، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِـ " لِمَ " ، فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ، وَسَلَّمْتُ مُسْرِعًا .
وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ
وَشْمَكِيرَ الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ : إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ
مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا; رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ .
وَانْجَرَّتِ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا لَهُ دَهَاءٌ وَمِنَّةٌ ، فَوَرَدَ عَلَى
وَشْمَكِيرَ رَسُولًا ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ أَمِيرٌ ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ وَلَا تُقَلِّدَ فِي عَقِيدَتِهَا ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ أَنْ يُفْصِحُوا عَنِ الْبَرَاهِينِ .
[ ص: 203 ] فَقَالَ
وَشْمَكِيرُ : اخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي ، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي ، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ . فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ : أَخْتاَرُ
nindex.php?page=showalam&ids=13779أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ . لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ ، وَلَكِنْ كَانَ
وَشْمَكِيرُ بِعَامِّيَّةٍ فِيهِ ( يَعْتَقِدُ ) أَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ فَقَالَ
وَشْمَكِيرُ : ذَلِكَ مُرَادِي ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ جَيِّدٌ .
فَأَرْسَلَ إِلَى
أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِجُرْجَانَ لِيَرْحَلَ إِلَيْهِ إِلَى
غَزْنَةَ ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَحَدٌ إِلَّا يَئِسَ مِنَ الدِّينِ ، وَقَالَ : سَيَبْهَتُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْكَافِرُ مَذْهَبًا الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ مَذْهَبًا ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمَلِكِ : إِنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ; لِئَلَّا يَتَّهِمَهُمْ ، فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ : فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ ، وَتَدَانَتْ لِيَ الدَّارُ; قُلْتُ : إِنَّا لِلَّهِ ، وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي ؟ ! هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ يُحْسِنُ الْجَدَلَ وَيَعْلَمُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى دِينِهِ ؟ ! نَدِمْتُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ عُمْرِي إِذْ لَمْ أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ .
ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ
الرَّيِّ ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي ، وَعَوَّلْتُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي ، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ، ثُمَّ جَمِيعُ الْخَلْقِ ، وَحَضَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ النَّسَبِ ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ : أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ ، فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ; قَالَ لَهُ الْحَافِظُ : لِمَ ؟ سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ; قَالَ : هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مَقَالَتِي; فَبُهِتَ .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ .
[ ص: 204 ] قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : " وَحِينَ انْتَهَى بِهِ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ; قُلْتُ : إِنْ كَانَ فِي الْأَجَلِ نَفَسٌ ، فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ .
فَوَجَّهْتُ إِلَى
أَبِي الْفَتْحِ الْإِمَامِ ، وَقُلْتُ لَهُ : لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ ، وَلَوْ خَرَجْتُ مِنْ
عَكَّا قَبْلَ أَنْ أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ; مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عَنْ نَادِرَةِ الْأَيَّامِ; وَانْظُرْ إِلَى حِذْقِهِ بِالْكَلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ ، حَيْثُ قَالَ لِي : أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ ؟ وَلَا يَسْأَلُ بِمِثْلِ هَذَا إِلَّا مِثْلُهُ ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ : لِمَ قُلْتَ : أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ ، فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى أَيِّ ، وَتَرَكْتَ الْهَمْزَةَ وَهَلْ وَكَيْفَ وَأَنَّى وَكَمْ وَمَا ، هِيَ أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَعَدَلْتَ عَنِ اللَّامِ مِنْ حُرُوفِهِ ؟ ! وَهَذَا سُؤَالٌ ثَانٍ عَنْ حِكْمَةٍ ثَانِيَةٍ ، وَهُوَ أَنَّ لِـ " أَيِّ " مَعْنَيَيْنِ فِي الِاسْتِفْهَامِ ، فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا ؟ وَلِمَ سَأَلْتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ ؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ هَلْ وَقَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ ؟ فَبَيِّنْهَا لَنَا .
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ; حَتَّى اصْفَرَّ آخِرًا مِنَ الْوَجَلِ ، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ . وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ ، وَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ ، وَهُمْ مَا رَأَوْا وَاحِدًا بِهِ رَمَقٌ ( إِلَّا أَهْلَكُوهُ ) ، لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ دَوْلَةِ مَلِكِ
الشَّامِ وَأَنَّ وَالِيَ
عَكَّا كَانَ يَحْضُرُنَا; مَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ أَبَدًا .
[ ص: 205 ] وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي ، قُلْتُ : هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ ، وَلَكِنْ نَتَوَاعَدُ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ ، فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي ، وَقَالُوا : لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا . فَقُلْتُ : لَا . وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا ، وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أَعْدُو ، حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَبَقِيتُ هُنَاكَ مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ ، حَتَّى خَرَجُوا بَعْدِي ، وَأَخْرَجُوا لِي ( لَايَكِي ) ، وَلَبِسْتُهَا ، وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا ، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ ، فَلَمْ أُوَفِّ لَهُمْ ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي " .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : " وَقَدْ قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ
بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى : إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=14922شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ اجْتَمَعَ بِرَئِيسٍ مِنَ
الشِّيعَةِ ، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ ، فَقَالَ
نَصْرٌ : هَلْ لِخُرُوجِهِ مِيقَاتٌ أَمْ لَا ؟ قَالَ الشِّيعِيُّ : نَعَمْ ، قَالَ لَهُ
أَبُو الْفَتْحِ : وَمَعْلُومٌ هُوَ أَوْ مَجْهُولٌ ؟ قَالَ : مَعْلُومٌ . قَالَ
نَصْرٌ : وَمَتَى يَكُونُ ؟ قَالَ : إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ . قَالَ
أَبُو الْفَتْحِ : فَهَلْ تَحْبِسُونَهُ عَنِ الْخَلْقِ وَقَدْ فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ; فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِنَا; فَبُهِتَ .
وَأَظُنُّهُ سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ
أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ الزَّاهِدِ .
انْتَهَى مَا حَكَاهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ لِمَنْ عَرَّجَ عَنْ تَعَرُّفِ أُصُولِهِمْ ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : يَتَنَوَّعُ أَيْضًا :
[ ص: 206 ] وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=20446الَّذِي لَمْ يَسْتَنْبِطْ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ ، لَكِنْ بِحَيْثُ أَقَرَّ بِالشُّبْهَةِ وَاسْتَصْوَبَهَا ، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ بِهَا مَقَامَ مَتْبُوعِهِ; لِانْقِدَاحِهَا فِي قَلْبِهِ ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ ، وَلَكِنَّهُ تَمَكَّنَ حُبُّ الْمَذْهَبِ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى عَادَى عَلَيْهِ وَوَالَى .
وَصَاحِبُ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَخْلُو مِنِ اسْتِدْلَالٍ ، وَلَوْ عَلَى أَعَمِّ مَا يَكُونُ ، فَقَدْ يَلْحَقُ بِمَنْ نَظَرَ فِي الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ عَامِيًّا ، لِأَنَّهُ عَرَضَ لِلِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ النَّظَرَ وَلَا مَا يَنْظُرُ فِيهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ; فَلَا يَبْلُغُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالدَّلِيلِ الْجُمْلِيِّ مَبْلَغَ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّمْثِيلِ .
إِنَّ الْأَوَّلَ : أَخَذَ شُبُهَاتٍ مُبْتَدَعَةً ، فَوَقَفَ وَرَاءَهَا ، حَتَّى إِذَا طُولِبَ فِيهَا بِالْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ ، تَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ ، أَوْ خَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَحَسَّنَ الظَّنَّ بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ ، فَتَبِعَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، إِلَّا تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُبْتَدِعِ خَاصَّةً ، وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْعَوَامِّ كَثِيرٌ .
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ حَالُ
حَمْدَانَ بْنِ قَرْمَطٍ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ
الْقَرَامِطَةُ ، إِذْ كَانَ أَحَدَ دُعَاةِ
الْبَاطِنِيَّةِ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ .
وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مَائِلًا إِلَى الزُّهْدِ ، فَصَادَفَهُ أَحَدُ دُعَاةِ
الْبَاطِنِيَّةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَرْيَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقَرٌ يَسُوقُهُ ، فَقَالَ لَهُ
حَمْدَانُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ : أَرَاكَ سَافَرْتَ عَنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ فَأَيْنَ مَقْصِدُكَ ؟ فَذَكَرَ مَوْضِعًا هُوَ قَرْيَةُ
حَمْدَانَ ، فَقَالَ لَهُ
حَمْدَانُ : ارْكَبْ بَقَرَةً مِنْ هَذَا الْبَقَرِ لِتَسْتَرِيحَ
[ ص: 207 ] بِهِ عَنْ تَعَبِ الْمَشْيِ ، فَلَمَّا رَآهُ مَائِلًا إِلَى الدِّيَانَةِ ، أَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، وَقَالَ : إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ : وَكَأَنَّكَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ
حَمْدَانُ : وَبِأَمْرِ مَنْ تَعْمَلُ ؟ قَالَ : بِأَمْرِ مَالِكِي وَمَالِكِكَ وَمَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، قَالَ : ذَلِكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهَبُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ . قَالَ : وَمَا غَرَضُكَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا ؟ فَقَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ أَهْلَهَا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ ، وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى ، وَمِنَ الشَّقَاوَةِ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَأَنْ أَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ وَرَطَاتِ الذُّلِّ وَالْفَقْرِ ، وَأُمَلِّكَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ ، فَقَالَ لَهُ
حَمْدَانُ : أَنْقِذْنِي أَنْقَذَكَ اللَّهُ ، وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا تُحْيِينِي ، فَمَا أَشَدَّ احْتِيَاجِي لِمِثْلِ مَا ذَكَرْتَهُ ! فَقَالَ لَهُ : وَمَا أُمِرْتُ أَنْ أُخْرِجَ السِّرَّ الْمَكْنُونَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِهِ وَالْعَهْدِ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : فَمَا عَهْدُكَ ؟ فَاذْكُرْهُ فَإِنِّي مُلْتَزِمٌ لَهُ . فَقَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِي وَلِلْإِمَامِ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِكَ وَمِيثَاقَهُ أَلَّا تُخْرِجَ سِرَّ الْإِمَامِ الَّذِي أُلْقِيهِ إِلَيْكَ وَلَا تُفْشِي سِرِّي أَيْضًا .
فَالْتَزَمَ
حَمْدَانُ عَهْدَهُ ، ثُمَّ انْدَفَعَ الدَّاعِي فِي تَعْلِيمِهِ فُنُونَ جَهْلِهِ ، حَتَّى اسْتَدْرَجَهُ وَاسْتَغْوَاهُ ، وَاسْتَجَابَ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِلدَّعْوَةِ ، وَصَارَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، فَسُمِّيَ أَتْبَاعُهُ
الْقَرَامِطَةَ .
وَمِثَالُ الثَّانِي مَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=104وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) ، الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : )
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=72قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=73أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=74قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) .
[ ص: 208 ] وَحَكَى
الْمَسْعُودِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى
صَعِيدِ مِصْرَ رَجُلٌ مِنَ
الْقِبْطِ مِمَّنْ يُظْهِرُ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَكَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12267أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ ، فَاسْتَحْضَرَهُ ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ لِيَسْأَلَهُ عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ : دَلِيلِي عَلَى صِحَّتِهَا وُجُودُ إِيَّاهَا مُتَنَاقِضَةً مُتَنَافِيَةً ، تَدْفَعُهَا الْعُقُولُ ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ ، لِتَبَايُنِهَا وَتَضَادِّهَا ، لَا نَظَرَ يُقَوِّيهَا ، وَلَا جَدَلَ يُصَحِّحُهَا ، وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عِنْدَ أَهْلِ التَّأَمُّلِ لَهَا وَالْفَحْصِ عَنْهَا ، وَرَأَيْتُ مَعَ ذَلِكَ أُمَمًا كَثِيرَةً وَمُلُوكًا عَظِيمَةً ذَوِي مَعْرِفَةٍ وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ قَدِ انْقَادُوا إِلَيْهَا وَتَدَيَّنُوا بِهَا ، مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَنَاقُضِهَا فِي الْعَقْلِ ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَا تَدَيَّنُوا بِهَا ، إِلَّا بِدَلَائِلَ شَاهَدُوهَا وَآيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ عَرَفُوهَا ، أَوْجَبَ انْقِيَادَهُمْ إِلَيْهَا وَالتَّدَيُّنَ بِهَا .
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : وَمَا التَّضَادُّ الَّذِي فِيهَا ؟
فَقَالَ : وَهَلْ يُدْرَكُ ذَلِكَ أَوْ تُعْلَمُ غَايَتُهُ ؟ مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ . وَوَصْفُهُمْ لِلْأَقَانِيمِ وَالْجَوْهَرِ ، وَهُوَ الثَّالُوثِيُّ ، وَهَلِ الْأَقَانِيمُ فِي أَنْفُسِهَا قَادِرَةٌ عَالِمَةٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي اتِّحَادِ رَبِّهِمُ الْقَدِيمِ بِالْإِنْسَانِ الْمُحْدَثِ ، وَمَا جَرَى فِي وِلَادَتِهِ وَصَلْبِهِ وَقَتْلِهِ ، وَهَلْ فِي التَّشْنِيعِ أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ مِنْ إِلَهٍ صُلِبَ ، وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ ، وَوُضِعَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلُ الشَّوْكِ ، وَضُرِبَ رَأْسُهُ
[ ص: 209 ] بِالْقَضِيبِ ؟ وَسُمِّرَتْ قَدَمَاهُ ، وَنُخِزَ بِالْأَسِنَّةِ وَالْخَشَبِ جَنْبَاهُ ؟ وَطَلَبَ ( الْمَاءَ ) فَسُقِيَ الْخَلَّ مِنْ بِطِّيخِ الْحَنْظَلِ ؟
فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ ، لِمَا قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ تَنَاقُضِ مَذْهَبِهِ وَفَسَادِهِ . اهـ .
وَالشَّاهِدُ مِنَ الْحِكَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّيُوخِ وَالْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : يَتَنَوَّعُ أَيْضًا ، وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=20446الَّذِي قَلَّدَ غَيْرَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَلَا يَخْلُو :
أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْهُ ، بِنَاءً عَلَى التَّسَامُعِ الْجَارِي بَيْنَ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ مِنْ عَالِمٍ وَغَيْرِهِ ، وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ بِخِلَافِ الْغَيْرِ .
أَوْ لَا يَكُونُ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ ، لَكِنْ لَيْسَ فِي إِقْبَالِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ مَا يَبْلُغُ تِلْكَ الرُّتْبَةَ .
فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ ، فَتَرَكَهُمْ هَذَا الْمُقَلِّدُ وَقَلَّدَ غَيْرَهُمْ; فَهُوَ آثِمٌ إِذْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ، بَلْ تَرَكَهُ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ ، إِذْ قَلَّدَ فِي دِينِهِ مَنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِالدِّينِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ ، فَعَمِلَ بِالْبِدْعَةِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .
وَهَذَا حَالُ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا دِينَهُمُ الْحَقَّ وَرَجَعُوا إِلَى بَاطِلِ آبَائِهِمْ ، وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ ، وَغَطَّى الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ دُونَ أَنْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ ، فَكَذَلِكَ
[ ص: 210 ] أَهْلُ هَذَا النَّوْعِ .
وَقَلَّمَا تَجِدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ; إِلَّا وَهُوَ يُوَالِي فِيمَا ارْتَكَبَ وَيُعَادِي بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ .
خَرَّجَ
الْبَغْوِيُّ عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ ، وَأَخَذَ بِجَبْهَتِهِ ، فَنَبَتَتْ شَعْرَةٌ بِجَبْهَتِهِ كَأَنَّهَا هُلْبَةُ فَرَسٍ . قَالَ : فَشَبَّ الْغُلَامُ ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ
الْخَوَارِجِ; أَجَابَهُمْ ، فَسَقَطَتِ الشَّعْرَةُ عَنْ جَبْهَتِهِ ، فَأَخَذَهُ أَبُوهُ ، فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ ، مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ ، قَالَ : فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، فَوَعَظْنَا [ هُ ] وَقُلْنَا لَهُ : أَلَمْ تَرَ بَرَكَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَتْ ؟ قَالَ : فَلَمْ نَزَلْ بِهِ حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ ، قَالَ : فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشَّعْرَةَ فِي جَبْهَتِهِ إِذْ تَابَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ إِلَى هَذَا الْمُقَلِّدِ الْخَامِلِ بَيْنَ النَّاسِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الْمُسْتَحِقِّينَ ، فَفِي تَأْثِيمِهِ نَظَرٌ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : إِنَّهُ آثِمٌ .
وَنَظِيرُهُ مَسْأَلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=30584أَهْلِ الْفَتَرَاتِ الْعَامِلِينَ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ ، وَاسْتِقَامَةً لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ ، مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ فِي حُكْمِهِمْ : إِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ :
قِسْمٌ غَابَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ ، وَلَمْ يَدْرِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَوَقَفَ عَنِ الْعَمَلِ بِكُلِّ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَقْلُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ ، وَرَأَى مَا أَهْلُ عَصْرِهِ عَامِلُونَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا اسْتِحْسَانُهُمْ ، فَلَمْ يَسْتَفِزَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْوُقُوفِ عَنْهُ ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّاخِلُونَ حَقِيقَةً تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ :
[ ص: 211 ] )
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) .
وَقِسْمٌ لَابَسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ، وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالرَّأْيِ وَوَافَقُوهُمْ فِي اعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدُوا مِنَ الْبَاطِلِ ، فَهَؤُلَاءِ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ، مُشَارِكُونَ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ فِي الْمُؤَاخَذَةِ ، لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ فِي الْعَمَلِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ عَلَى تِلْكَ الشِّرْعَةِ ، فَصَارُ [ وا ] مِنْ أَهْلِهَا . فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ : كَيْفَمَا كَانَ ؛ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُلِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ .
وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ قَوْلًا هَكَذَا ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَأْتِيَ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَصِبِ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ ، فَإِنْ رَاجَعَهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَقَدْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ وَرَجَاءَ السَّلَامَةِ ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ظَهَرَ عِنَادُهُ ، لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الْفَرْضِ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الطَّارِئِ ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ; كَانَ ذَلِكَ لِهَوًى دَاخَلَهُ ، وَتَعَصُّبٍ جَرَى فِي قَلْبِهِ مَجْرَى الْكَلْبِ فِي صَاحِبِهِ ، وَهُوَ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ; لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَنْتَصِرَ لِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ ، وَيُحَسِّنَهُ ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِيَّتِهِ ، وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ .
فَأَنْتَ تَرَى صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بُعِثَ إِلَى أَصْحَابِ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ ، وَقَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى آبَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فِيهَا ، وَرَدُّوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ رَيْنُ الْهَوَى ، حَتَّى الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ بِغَيْرِهَا;
[ ص: 212 ] كَيْفَ صَارَتْ شَرِيعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ ، وَصَارَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ مَسُوقًا إِلَى النَّارِ عَلَى الْعُمُومِ ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَانِدِ صَرَاحًا وَغَيْرِهِ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، بِمُجَرَّدِ بَعْثَتِهِ وَإِرْسَالِهِ لَهُمْ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ الَّذِي خَالَفُوهُ .
فَمَسْأَلَتُنَا شَبِيهَةٌ بِذَلِكَ ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ ، وَمَنْ تَابَعَ الْهَوَى خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ .