ومنها : والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله : تخرصهم على الكلام في القرآن
فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ، ويدينون به ، ويخالفون الراسخين في العلم ، وإنما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم ، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط ، وليسوا كذلك :
كما حكي عن بعضهم : أنه سئل عن قول الله تعالى : ريح فيها صر ؟ فقال : " هو هذا الصرصر " ؛ يعني صرار الليل .
وعن النظام : أنه كان يقول : " إذا آلى ( المرء ) بغير اسم الله لم يكن موليا ؛ قال : " لأن الإيلاء مشتق من اسم الله " .
وقال بعضهم في قول الله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، " لكثرة أكله من الشجرة " ، يذهبون إلى قول العرب ، غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ، ولا يقال فيه : غوى ، وإنما غوى من الغي .
وفي قوله سبحانه : ولقد ذرأنا لجهنم ؛ أي : " ألقينا فيها " ؛ كأنه [ ص: 302 ] عندهم من قول العرب : ذرته الريح ، وذلك لا يجوز ؛ لأن ذرأنا مهموز ، وذرته غير مهموز ، وكذلك إذا كان من : أذرته الدابة عن ظهرها ؛ لعدم الهمزة ، ولكنه رباعي ، وذرأنا ثلاثي .
وحكى ابن قتيبة عن : أنه كان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئها ، فسمع بشر المريسي قاسم التمار قوما يضحكون ، فقال : هذا كما قال الشاعر :
إن سليمى والله يكلوها ضنت بشيء ما كان يرزوها
رأس في الرأي ، وبشر المريسي وقاسم التمار رأس في أصحاب الكلام .قال ابن قتيبة : " واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر " .
واستدل بعضهم [ على ] تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى : ولحم الخنزير ، فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره ، فدل على أنه حلال !
وربما سلم بعض العلماء ما قالوا ، وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع ، والأمر أيسر من ذلك ؛ فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة ، حتى إذا خص بالذكر ؛ قيل : شحم ؛ كما يقال : عرق ، وعصب ، وجلد ، ولو كان على ما قالوا ؛ لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرما ، وهو خروج عن [ ص: 303 ] القول بتحريم الخنزير .
ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب استدلالا بقوله تعالى : مذهب الخوارج في زعمهم أن لا تحكيم ؛ إن الحكم إلا لله ؛ فإنه مبني على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ، فلا يلحقه تخصيص ، فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقوله : يحكم به ذوا عدل منكم .
وإلا ؛ فلو علموا تحقيقا قاعدة العرب في أن العموم يراد به الخصوص ؛ لم يسرعوا إلى الإنكار ، ولقالوا في أنفسهم : هل هذا العام مخصوص ؟ فيتأولون .
وفي الوضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا .
وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل ، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله .
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ، وتسقط مكالمة أهلها ، ولا يعد خلاف أمثالهم ، وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية ؛ فهو عين البدعة ، إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى .
فحق ما حكي عن رضي الله عنه ، حيث قال : [ ص: 304 ] " إنما هذا القرآن كلام ، فضعوه مواضعه ، ولا تتبعوا به أهواءكم " ؛ أي : فضعوه على مواضع الكلام ، ولا تخرجوه عن ذلك ؛ فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى . عمر بن الخطاب
وعنه أيضا : " إنما أخاف عليكم رجلين : رجل تأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينفس المال على أخيه " .
وعن الحسن : أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه ؟ قال : " نعم ، فليتعلمها ؛ فإن الرجل يقرأ بالآية ، ( فيعياه توجيهها ) ، فيهلك . وعنه أيضا ؛ قال : " أهلكتهم العجمة ، يتأولون القرآن على غير تأويله " .