[ ص: 48 ] [ ص: 49 ] وأصل المادة " بدع " للاختراع على غير مثال سابق ، ومنه :
قول الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=117بديع السماوات والأرض ) ، أي : مخترعها من غير مثال سابق متقدم .
وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=9قل ما كنت بدعا من الرسل ) ; أي : ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد ، بل تقدمني كثير من الرسل .
ويقال : ابتدع فلان بدعة ، يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق . وهذا أمر بديع ، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن ، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه .
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة ، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع ، وهيئتها هي البدعة ، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة .
فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة ، وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله .
[ ص: 50 ] ثبت في علم الأصول أن
nindex.php?page=treesubj&link=20491الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة : حكم يقتضيه معنى الأمر; كان للإيجاب أو الندب ، وحكم يقتضيه معنى النهي ، كان للكراهة أو التحريم . وحكم يقتضيه معنى التخيير ، وهو الإباحة .
فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة : مطلوب فعله ، ومطلوب تركه ، ومأذون في فعله وتركه .
والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين ، لكنه على ضربين :
أحدهما : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك ، وهو إن كان محرما; سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما ، وإلا ، لم يسم بذلك ، ودخل في حكم العفو; حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ، ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا ، لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين .
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع; من جهة ضرب الحدود ، وتعيين الكيفيات ، والتزام الهيئات المعينة ، أو الأزمنة المعينة مع الدوام ، ونحو ذلك ، وهذا هو الابتداع والبدعة ، ويسمى فاعله مبتدعا .
nindex.php?page=treesubj&link=20340فالبدعة إذن عبارة عن : طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه .
وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة ، وإنما
[ ص: 51 ] يخصها بالعبادات ، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة ، فيقول :
البدعة : طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية .
ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد :
فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد ، وهو ما رسم للسلوك عليه .
وإنما قيدت بالدين ، لأنها فيه تخترع ، وإليه يضيفها صاحبها ، وأيضا; فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص ، لم تسم بدعة; كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم .
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ، فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها ، خص منها ما هو المقصود بالحد ، وهو القسم المخترع ، أي : طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع ، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع .
وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين ، كعلم النحو والتصريف ، ومفردات اللغة ، وأصول الفقه ، وأصول الدين ، وسائر العلوم الخادمة للشريعة ، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول ، فأصولها موجودة في الشرع :
إذ الأمر بإعراب القرآن منقول .
وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة ، فحقيقتها إذا
[ ص: 52 ] أنها : فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها; كيف تؤخذ وتؤدى ؟
وأصول الفقه; إنما معناها استقراء كليات الأدلة ، حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس .
وكذلك أصول الدين ، وهو علم الكلام ، إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به ، كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية .
فإن قيل : فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع ؟
فالجواب : أن له أصلا في الشرع ، ففي الحديث ما يدل عليه ، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص ، فالشرع بجملته يدل على اعتباره ، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة ، وسيأتي بسطها بحول الله :
فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزء واحد ، فليست ببدعة ألبتة .
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات ، وإذا دخلت في علم البدع ؛ كانت قبيحة ؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال ، كما يأتي بيانه إن شاء الله ، ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحا ، وهو باطل بالإجماع ، فليس إذا ببدعة . ويلزم أن يكون له دليل شرعي ، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال ، وهو المأخوذ من جملة
[ ص: 53 ] الشريعة ، وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة ، ثبت مطلق المصالح المرسلة .
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة ، بدعة أصلا .
ومن سماه بدعة : فإما على المجاز; كما سمى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة ، وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة ، فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه .
وقوله في الحد : " تضاهي الشرعية " ; يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة :
منها : وضع الحدود; كالناذر للصيام قائما لا يقعد ، ضاحيا لا يستظل ، والاختصاص في الانقطاع للعبادة ، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة .
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ، وما أشبه ذلك .
ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة ، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته .
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة ، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ، لأنها تصير من باب الأفعال العادية .
وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى
[ ص: 54 ] يكون ملبسا بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة ، إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع ، لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعا ولا يدفع به ضررا ولا يجيبه غيره إليه .
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ، ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير .
فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة
إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجا منهم ، كقولهم في أصل الإشراك (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، وكترك الحمس الوقوف
بعرفة ; لقولهم : لا نخرج من الحرم اعتدادا بحرمته ، وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا; قائلين : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها ، وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع .
فما ظنك بمن عد أو عد نفسه من خواص أهل الملة ؟ ! فهم أحرى بذلك ، وهم المخطئون ، وظنهم الإصابة ، وإذا تبين هذا; ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد .
وقوله : " يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى " هو تمام معنى البدعة ، إذ هو المقصود بتشريعها ، وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك; لأن الله تعالى يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، فكأن المبتدع رأى أن
[ ص: 55 ] المقصود هذا المعنى ، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف ، فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة ، وأحوال مرتبطة ، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته ، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة .
وأيضا; فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة ، فإذا جدد لها أمر لا تعهده ، حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ، ولذلك قالوا : لكل جديد لذة; بحكم هذا المعنى ، كمن قال : كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل رضي الله عنه : فيوشك قائل أن يقول : ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأت القرآن ، فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة .
[ ص: 56 ] وقد تبين بهذا القيد أن
nindex.php?page=treesubj&link=20403البدع لا تدخل في العادات ، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد; فقد خرج عن هذه التسمية ، كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة ، وكذلك اتخاذ المناخل ، وغسل اليد بالأشنان ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل ، فإنها لا تسمى بدعا على إحدى الطريقتين .
وأما الحد على الطريقة الأخرى; فقد تبين معناه ، إلا قوله : " يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية " ، ومعناه : أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم; لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها ، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته ، لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات ، فإن تعلقت بالعبادات ، فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ، ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه ، وإن تعلقت بالعادات; فكذلك ، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها .
[ ص: 57 ] فمن يجعل المناخل في قسم البدع; فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول ، وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة; التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب ، ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر ، وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات ، فيعد المبتدع هذا من ذلك .
وقد ظهر معنى البدعة ، وما هي في الشرع ، والحمد لله .
[ ص: 48 ] [ ص: 49 ] وَأَصْلُ الْمَادَّةِ " بَدَعَ " لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ ، وَمِنْهُ :
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=117بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، أَيْ : مُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=9قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) ; أَيْ : مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ .
وَيُقَالُ : ابْتَدَعَ فَلَانٌ بِدْعَةً ، يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ . وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ .
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً ، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ ، وَهَيْئَتُهَا هِيَ الْبِدْعَةُ ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمُ الْمَعْمُولُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِدْعَةً .
فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ .
[ ص: 50 ] ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20491الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ : حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ; كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ . وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ .
فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ : مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ .
وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً خَاصَّةً مَعَ مُجَرَّدِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا; سُمِّيَ فِعْلًا مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا ، وَإِلَّا ، لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ; حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ التَّشْرِيعِ; مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعَ الدَّوَامِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ ، وَيُسَمَّى فَاعِلُهُ مُبْتَدِعًا .
nindex.php?page=treesubj&link=20340فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ : طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ ، وَإِنَّمَا
[ ص: 51 ] يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ ، فَيَقُولُ :
الْبِدْعَةُ : طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ :
فَالطَّرِيقَةُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَالسَّنَنُ هِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا صَاحِبُهَا ، وَأَيْضًا; فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ ، لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً; كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ ، فَمِنْهَا مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا ، خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ ، أَيْ : طَرِيقَةٌ ابْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ ، إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ .
وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ ، كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأُصُولِ الدِّينِ ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ، فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ :
إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ .
وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا
[ ص: 52 ] أَنَّهَا : فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا; كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى ؟
وَأُصُولُ الْفِقْهِ; إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ .
وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا فِي الْفُرُوعِ الْعِبَادِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ ، فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ :
فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ ، فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ .
وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ ؛ كَانَتْ قَبِيحَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَيْسَ إِذًا بِبِدْعَةٍ . وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ
[ ص: 53 ] الشَّرِيعَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ، ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ .
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ ، بِدْعَةً أَصْلًا .
وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً : فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ; كَمَا سَمَّى
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً ، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ : " تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ " ; يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ ، بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لَهَا مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ :
مِنْهَا : وَضَعُ الْحُدُودِ; كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ ، وَالِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ .
وَمِنْهَا : الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدًا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ .
وَثَمَّ أَوْجُهٌ تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى
[ ص: 54 ] يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَقْصِدُ الِاسْتِتْبَاعَ بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ .
وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ .
فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ تَأَوَّلُوا فِيمَا أَحْدَثُوا احْتِجَاجًا مِنْهُمْ ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، وَكَتَرْكِ الْحُمْسِ الْوُقُوفَ
بِعَرَفَةَ ; لِقَوْلِهِمْ : لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ ، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا; قَائِلِينَ : لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ لِيُصَيِّرُوهُ بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ .
فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عُدَّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ ؟ ! فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ ، وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا; ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ .
وَقَوْلُهُ : " يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى " هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ فِيهَا يَحُثُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ
[ ص: 55 ] الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ فِيهِ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ ، فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ ، مَعَ مَا يُدَاخِلُ النُّفُوسَ مِنْ حُبِّ الظُّهُورِ أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضَّبْطِ شَائِبَةُ الْبِدْعَةِ .
وَأَيْضًا; فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُرَتَّبَةِ ، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ ، حَصَلَ بِهَا نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ; بِحُكْمِ هَذَا الْمَعْنَى ، كَمَنْ قَالَ : كَمَا تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ : مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ الْقُرْآنَ ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ .
[ ص: 56 ] وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20403الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ ، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ; فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَبْلُ ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى بِدَعًا عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ .
وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى; فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ ، إِلَّا قَوْلُهُ : " يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ " ، وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ; لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا ، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ; فَكَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا .
[ ص: 57 ] فَمَنْ يَجْعَلُ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ; فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ ، وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ الْمُحْتَفِلَةُ; التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخَرِبِ ، وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ ، وَقَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، فَيَعُدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ ، وَمَا هِيَ فِي الشَّرْعِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .