وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشرعية ، وفروع طالت أفنانها ، لكنها تنتظمها تلك الأصول ، وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر ، فمالت إلى بثها النفس ، ورأت أنه من الأكيد الطلب ، لما فيه من رفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع ، لأنه لما كثرت البدع ، وعم ضررها ، واستطار شررها ، ودام الإكباب على العمل بها ، والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها ، وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ، صارت كأنها سنن مقررات ، وشرائع من صاحب الشرع محررات ، فاختلط المشروع بغيره ، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم ، فالتبس بعضها ببعض ، فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم ، وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف ، وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف .
[ ص: 42 ] مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين : فالموالي لم يخلد به إلى الأرض ، ويلقي له باليد إلى العجز عن بث الحق ، بعد رسوخ العوائد في القلوب ، والمعادي يرميه بالأردبيس ، ويروم أخذه بالعذاب البئيس ، لأنه يرد عوائده الراسخة في القلوب ، المتداولة في الأعمال ، دينا يتعبد به ، وشريعة يسلك عليها ، لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد ، مع بعض الأشياخ العالمين ، كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا . ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح .
فالمعترض لمثل هذا الأمر ينحو نحو رضي الله عنه في العمل ، حيث قال : " ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله ، قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي ، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره . عمر بن عبد العزيز
وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه ، غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ، ولا يسع أحدا ممن له منة إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه ، بعد تحصيله على كماله ، وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق إلا يرفع مناره ، ولا تكشف وتجلى أنواره .
فقد خرج بسنده إلى أبو الطاهر السلفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " أبي هريرة يا علم الناس القرآن وتعلمه ، فإنك إن مت وأنت كذلك; [ ص: 43 ] زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق ، وعلم الناس سنتي ، وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة; فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك أبا هريرة .
[ ص: 44 ] قال أبو عبد الله بن القطان : " وقد جمع الله له ذلك كله ، من إقراء كتاب الله ، والتحديث بالسنة ، أحب الناس أم كرهوا ، وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى ، تتميما للسلامة من الخطأ .
على أن حكى عن أبا العرب التميمي ابن فروخ : " أنه كتب إلى إن بلدنا كثير البدع ، وإنه ألف كلاما في الرد عليهم . مالك بن أنس
فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك ، خفت أن تزل فتهلك ، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم ، لا يقدرون أن يعرجوا عليه ، فهذا لا بأس به ، وأما غير ذلك ، فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه ، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك ، انتهى .
وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام . وشياع هذا النكر ، وفشو العمل به ، وتظاهر أصحابه; يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام ، لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها .
[ ص: 45 ] وحكى عن غير واحد : أن ابن وضاح كتب إلى أسد بن موسى : أسد بن الفرات
" اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله ، من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع ، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم ، فقمعهم الله بك ، وشد بك ظهر أهل السنة ، وقواك عليهم بإظهار عيبهم ، والطعن عليهم ، وأذلهم الله بذلك ، وصاروا ببدعتهم مستترين .
فأبشر يا أخي بثواب الله ، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد . وأين تقع هذه الأعمال من صلى الله عليه وسلم ؟ ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسول الله ومن أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه ، وقال : ؟ ! فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟ ! وذكر أيضا : أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه ، كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها ، وينطق بعلامتها .
فاغتنم يا أخي هذا الفضل ، وكن من أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ [ ص: 46 ] حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال : " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا ، وأعظم القول فيه .
فاغتنم ذلك ، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ، فيكونون أئمة بعدك ، فيكون لك ثواب إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر .
فاعمل على بصيرة ونية حسنة ، فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر ، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم .
فأحي كتاب الله وسنة نبيه ، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه .
انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله . وهو مما يقوي جانب الإقدام ، مع ما روي عن رضي الله عنه : أنه خطب الناس ، فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال : عمر بن عبد العزيز
" والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت ، أو أن أميت بدعة قد أحييت ، لكرهت أن أعيش فيكم فواقا " .
وخرج في كتاب " القطعان " وحديث ابن وضاح : أنه بلغه عن الأوزاعي الحسن أنه قال : " لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده ، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله ، فإذا وافقوه ، حمدوا الله ، وإذا خالفوه ، عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل ، وهدى من اهتدى ، فأولئك خلفاء الله .
وفيه عن سفيان ; قال : اسلكوا سبيل الحق ، ولا تستوحشوا من قلة [ ص: 47 ] أهله . فوقع الترديد بين النظرين .
ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الإخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء ، وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء ، فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ، ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات .
فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته بـ الاعتصام .
والله أسأل أن يجعله عملا خالصا ، ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا ، والأجر على العناء فيه كاملا لا ناقصا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب ، وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه ، وما انجر معها من الفروع المتعلقة به .