الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 290 ] ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سيدهم على الإطلاق وابن سيدهم ، وعالمهم وابن عالمهم ، باعترافهم له بذلك ، وشهادتهم ، وهو عبد الله بن سلام ، لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض ، فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصي عددهم إلا الله .

إسلام عبد الله بن سلام سيد اليهود

ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام .

فروى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنهم ، قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فقيل : جاء نبي الله فاستشرفوا ينظرون ، إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه ، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها ، فجاء وهي معه ، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما خلا نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام ، فقال : أشهد أنك نبي الله حقا ، وأنك جئت بالحق ، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم ، وأعلمهم وابن أعلمهم ، فادعهم واسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في .

فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه ، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود ، ويلكم ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول حقا ، وأني جئتكم بحق ، أسلموا .

[ ص: 291 ] فقالوا : ما نعلمه ، فأعادها عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك .

قال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم ؟ ، قالوا : حاش لله ما كان أن يسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن سلام ، اخرج إليهم ، فخرج عليهم ، فقال : يا معشر اليهود ، ويلكم ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ، وأنه جاء بالحق ، فقالوا كذبت ، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم
.

وفي صحيح البخاري أيضا ، من حديث حميد ، عن أنس ، قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ ، قال : أخبرني بهن جبريل آنفا ، ( قال : جبريل ؟ ) قال : نعم ، قال : ذلك عدو اليهود من الملائكة ، قال : ثم قرأ هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله

ثم قال : أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله [ ص: 292 ] وأشهد أنك رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني .

فجاءت اليهود إليه ، فقال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا ، وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله بن سلام فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله .

قالوا : شرنا وابن شرنا . وانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله
.

وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن يحيى بن عبد الله ، عن رجل من آل عبد الله بن سلام ، قال : كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم ، وكان حبرا عالما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرفت صفته واسمه ، وهيأته ، والذي كنا نتوكف له ، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف ، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، وأنا في رأس نخل لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كبرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري : لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زاد . يعني إن فعلت .

قال ، قلت لها : يا عمتي ، هو والله أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه بعث بما بعث به ، فقالت : يا ابن أخي ، أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال : قلت لها : نعم ، قالت : فذاك إذا .

[ ص: 293 ] قال : ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ، وكتمت إسلامي من اليهود ، ثم جئت رسول الله فقلت : إن اليهود قوم بهت ، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم ، ثم تسألهم عني ، كيف أنا فيهم ، قبل أن يعلموا بإسلامي ؟ فإنهم إن علموا بإسلامي بهتوني وعابوني . قال : فأدخلني بعض بيوته ، فدخلوا عليه وكلموه وسألوه ، فقال لهم : وأي رجل عبد الله بن سلام ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، قال : فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم ، فقلت لهم : يا معشر اليهود ! اتقوا الله ، واقبلوا ما جاءكم به ، فوالله إنكم تعلمون أنه رسول الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته ، فإني أشهد أنه رسول الله ، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه . قالوا : كذبت ، ثم وقعوا في ، فقلت : يا رسول الله ، ألم أخبرك أنهم قوم بهت ، أهل غدر وكذب وفجور ؟ ! قال : فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي ، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها
.

وفي مسند الإمام أحمد وغيره عنه ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل الناس قبله ، فقالوا : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه ، فلما [ ص: 294 ] رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته منه أن قال : أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام - تدخلوا الجنة بسلام .

فعلماء القوم وأحبارهم كلهم كانوا كما قال الله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، ومنهم من آثر الدنيا وأطاع داعي الحسد والكبر .

وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري ، قال : كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان يعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها ، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها ، وعمد أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب ، وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ، وحادثه ثم رجع إلى قومه ، وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام ، فقال أبو ياسر : يا قوم أطيعوني ، فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه ، فاتبعوه ولا تخالفوه . فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك - وهو سيد اليهود يومئذ - وهما من بني النضير فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه وسمع منه ، فرجع إلى قومه وكان فيهم مطاعا ، فقال : أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا ، فقال له أخوه أبو ياسر : يا ابن أم أطعني في هذا الأمر ، ثم اعصني فيما [ ص: 295 ] شئت بعده لا تهلك ، قال : لا والله لا أطيعك ، واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه ! .

وذكر ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عمن حدثه ، عن صفية بنت حيي أنها قالت : لم يكن من ولد أبي وعمي أحد أحب إليهما مني ، لم ألقهما في ولد قط إلا أخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء ، نزل في بني عمرو بن عوف ، فغدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فوالله ما جاءا إلا مع مغيب الشمس ، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما نظر إلي واحد منهما ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله ، قال : تعرفه بنعته وصفته ؟ قال : نعم والله ، قال : فماذا في نفسك منه ، قال : عداوته والله ما بقيت .

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية ، وأسيد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، قال من كفر من اليهود : ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين .

التالي السابق


الخدمات العلمية