الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
ومن المعلوم أن نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى وليست عند عامتهم ، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين القرآن ، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ ، ولا سيما إذا كان بقيتهم لا يحفظونها ، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم ، أمكن ذلك ، وهذا واقع في العالم كثيرا . فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح وجحد البشارة وتحريفها ، واشتهر ذلك بين طوائفهم في مشارق الأرض ومغاربها ، وكذلك تواطئوا على أنه كان طبيبا ساحرا ممخرقا ابن زنية ، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرة التي أرسل بها ، وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمي به ، وشاع ما تواطئوا عليه وملئوا به كتبهم شرقا وغربا ، وكذلك تواطئوا على أن لوطا نكح ابنتيه وأولدهما أولادا ، وشاع ذلك فيهم جميعهم ، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان ، وعض أنامله ، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب ، وأنه راقد عنهم ، وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم . وكذلك تواطئوا على فصول لفقوها بعد زوال مملكتهم ، يصلون بها لم تعرف عن موسى ، ولا عن أحد من أتباعه ، كقولهم في صلاتهم : اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا ، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك ، سبحانك ، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل .

وقولهم فيها : ( اردد حكمنا ) كالأولين ومسيرتنا كالابتداء ، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا كما وعدتنا ببنائها ، سبحانك ، يا باني أورشليم ، ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئا من ذلك .

وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاة أول العام ما حكيناه عنهم ، وكذلك تواطؤهم [ ص: 431 ] على شرع صوم إحراق بيت المقدس ، وصوم حصار ، وصوم كدليا ، وفرضهم ذلك صوما ، وصوم صلب هامان ، وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها ، وتواطئوا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله : لا تزيدوا على الأمر الذي أنا أوصيكم به شيئا ، ولا تنقصوا منه شيئا . فتواطئوا على الزيادة والنقصان وتبديل أحكام الله ، كما تواطئوا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهي في التوراة نصا . وكذلك تواطئوا على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعباده تمسكا منه باليهودية ، وقد كذبتهم التوراة وسائر النبوات .

ومن العجائب حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء ثم يقولون : إنه ندم وبكى عن الطوفان ، وعاد في رأيه وندم على خلق الإنسان ، وهذه مضارعة لإخوانهم من عباد الصليب الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد ، ونسبوهما إلى الفرد الصمد .

ومن ذلك تواطؤهم على الملك يعود إليهم ، وترجع الملل كلها إلى ملة اليهود ويصيرون قاهرين لجميع الملل .

[ ص: 432 ] ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها ، وتركها في جل أمورهم إلا اليسير من ذلك ، وهم معترفون بذلك ، وأنه أكثر أسباب زوال ملكهم وعزهم . فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح ، وجحد نبوته ، وبهته وبهت أمه والكذب الصريح على الله وعلى أنبيائه وتعطيل أحكام الله والاستبدال بها ، وعلى قتلهم أنبياء الله أن يتواطئوا على تحريف بعض التوراة ، وكتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته فيها .

وأما أمة الضلال وعباد الصليب والصور المزوقة في الحيطان ، وإخوان الخنازير ، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم ، وجاعلوه مصفعة اليهود ، وتواطؤهم على ذلك ، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل ، فلا إله إلا الله الذي أبرز إلى الوجود مثل هذه الأمة التي هي أضل من الحمير ، ومن جميع الأنعام السائمة ، وخلى بينهم وبين سبه وشتمه وتكذيب عبده ورسوله ، ومعاداة حزبه وأوليائه ، وموالاة الشيطان ، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن ، وعن قول " الله أكبر " بالتصليب على الوجه ، وعن قراءة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين بـ اللهم اعطنا خبزنا الملائم ، وعن السجود للواحد القهار بالسجود للصورة المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر والأزورد ، فهذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب ، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ، ولا عين ولا أثر ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية