الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يرفع الحجر ( أما ) الصبي فالذي يرفع الحجر عنه شيئان : أحدهما : إذن الولي إياه بالتجارة ، والثاني : بلوغه إلا أن الإذن بالتجارة يزيل الحجر عن التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع .

                                                                                                                                ( وأما ) التصرفات الضارة المحضة فلا يزول الحجر عنها إلا بالبلوغ وهذا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله لا يزول الحجر عن الصبي إلا بالبلوغ وقد مرت المسألة ثم عند أبي حنيفة رضي الله عنه يزول الحجر عن التصرفات بالبلوغ سواء بلغ رشيدا أو سفيها ، وكذا عند أبي يوسف إلا أن يحجر عليه القاضي بعد البلوغ فينحجر بحجره ، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا ينحجر الصبي عن التصرف بحجر القاضي لكن يمنع ماله إلى خمس وعشرين سنة ، وعند محمد .

                                                                                                                                والشافعي لا يزول إلا ببلوغه رشيدا ، ثم البلوغ في الغلام يعرف بالاحتلام والإحبال والإنزال ، وفي الجارية يعرف بالحيض والاحتلام والحبل ، فإن لم يوجد شيء من ذلك فيعتبر بالسن .

                                                                                                                                ( أما ) معرفة البلوغ بالاحتلام فلما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رفع القلم عن ثلاثة منها الصبي حتى يحتلم } جعل عليه الصلاة والسلام الاحتلام غاية لارتفاع الخطاب ، والخطاب بالبلوغ دل أن البلوغ يثبت بالاحتلام ; ولأن البلوغ والإدراك عبارة عن بلوغ المرء كمال الحال وذلك بكمال القدرة والقوة ، والقدرة [ ص: 172 ] من حيث سلامة الأسباب والآلات هي إمكان استعمال سائر الجوارح السليمة ، وذلك لا يتحقق على الكمال إلا عند الاحتلام ، فإن قيل الإدراك إمكان استعمال سائر الجوارح إن كان ثابتا ، فأما إمكان استعمال الآلة المخصوصة وهو قضاء الشهوة على سبيل الكمال فليس بثابت ; لأن كمالها بالإنزال والاحتلام سبب لنزول الماء على الأغلب فجعل علما على البلوغ ; ولأن الله تعالى أمر بابتغاء الولد وأخبر أنه مكتوب له بقوله تبارك وتعالى { وابتغوا ما كتب الله لكم } والتكليف بابتغاء الولد إنما يتوجه في وقت لو ابتغى الولد لوجد ، ولا يكون ذلك إلا في خروج الماء للشهوة وذلك في حق الصبي بالاحتلام في المتعارف ، ولأن عند الاحتلام يخرج عن حيز الأولاد ويدخل في حيز الآباء حتى يسمى أبا فلان لا ولد فلان في المتعارف ; لأن عنده يصير من أهل العلوق فكان الاحتلام علما على البلوغ ، وإذا ثبت أن البلوغ يثبت بالاحتلام يثبت بالإنزال ; لأن ما ذكرنا من المعاني يتعلق بالنزول لا بنفس الاحتلام إلا أن الاحتلام سبب لنزول الماء عادة فعلق الحكم به ، وكذا الإحبال ; لأنه لا يتحقق بدون الإنزال عادة فإن لم يوجد شيء مما ذكرنا فيعتبر البلوغ بالسن ، وقد اختلف العلماء في أدنى السن التي يتعلق بها البلوغ قال أبو حنيفة رضي الله عنه : ثماني عشرة سنة في الغلام وسبع عشرة في الجارية ، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله خمس عشرة سنة في الجارية والغلام جميعا وجه قولهم : أن المؤثر في الحقيقة هو العقل ، وهو الأصل في الباب إذ به قوام الأحكام ، وإنما الاحتلام جعل حدا في الشرع لكونه دليلا على كمال العقل ، والاحتلام لا يتأخر عن خمس عشرة سنة عادة فإذا لم يحتلم إلى هذه المدة علم أن ذلك لآفة في خلقته ، والآفة في الخلقة لا توجب آفة في العقل فكان العقل قائما بلا آفة فوجب اعتباره في لزوم الأحكام ، وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه { عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام وهو ابن أربع عشرة سنة فرده وعرض وهو ابن خمس عشرة فأجازه } فقد جعل عليه الصلاة والسلام خمس عشرة حدا للبلوغ ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الشرع لما علق الحكم والخطاب بالاحتلام بالدلائل التي ذكرناها فيجب بناء الحكم عليه ، ولا يرتفع الحكم عنه ما لم يتيقن بعدمه ، ويقع اليأس عن وجوده ، وإنما يقع اليأس بهذه المدة ; لأن الاحتلام إلى هذه المدة متصور في الجملة ، فلا يجوز إزالة الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع الاحتمال ، على هذا أصول الشرع ، فإن حكم الحيض لما كان لازما في حق الكبيرة لا يزول بامتداد الطهر ما لم يوجد اليأس ، ويجب الانتظار لمدة اليأس لاحتمال عود الحيض ، وكذا التفريق في حق العنين لا يثبت ما دام طمع الوصول ثابتا ، بل يؤجل سنة لاحتمال الوصول في فصول السنة ، فإذا مضت السنة ووقع اليأس الآن يحكم بالتفريق ، وكذا أمر الله سبحانه وتعالى بإظهار الحجج في حق الكفار والدعاء إلى الإسلام إلى أن يقع اليأس عن قبولهم ، فما لم يقع اليأس لا يباح لنا القتال ، فكذلك ههنا مادام الاحتلام يرجى يجب الانتظار ولا يأس بعد مدة خمس عشرة إلى هذه المدة ، بل هو مرجو فلا يقطع الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع رجاء وجوده بخلاف ما بعد هذه المدة ، فإنه لا يحتمل وجوده بعدها فلا يجوز اعتباره في زمان اليأس عن وجوده .

                                                                                                                                ( وأما ) الحديث فلا حجة فيه ; لأنه يحتمل أنه أجاز ذلك لما علم عليه الصلاة والسلام أنه احتلم في ذلك الوقت ، ويحتمل أيضا أنه أجاز ذلك لما رآه صالحا للحرب محتملا له على سبيل الاعتياد للجهاد ، كما أمرنا باعتبار سائر القرب في أول أوقات الإمكان والاحتمال لها ، فلا يكون حجة مع الاحتمال ، وإذا أشكل أمر الغلام المراهق في البلوغ فقال : قد بلغت يقبل قوله ويحكم ببلوغه ، وكذلك الجارية المراهقة ; لأن الأصل في البلوغ هو الاحتلام على ما بينا ، وأنه لا يعرف إلا من جهته فألزمت الضرورة قبول قوله ، كما في الإخبار عن الطهر والحيض والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                ( وأما ) المجنون فلا يزول الحجر عنه إلا بالإفاقة فإذا أفاق رشيدا أو سفيها فحكمه في ذلك حكم الصبي ، وقد ذكرناه .

                                                                                                                                ( وأما ) الرقيق فالحجر يزول عنه بالإعتاق مرة وبالإذن بالتجارة أخرى إلا أن الإعتاق يزيل الحجر عنه على الإطلاق ، والإذن بالتجارة لا يزيل إلا في التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع .

                                                                                                                                ( وأما ) السفيه فلا حجر عليه عن التصرف أصلا عند أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يتصور الزوال .

                                                                                                                                ( وأما ) على مذهبهم فزواله عند أبي يوسف بضده وهو الإطلاق من القاضي فكما لا ينحجر إلا بحجره [ ص: 173 ] لا ينطلق إلا بإطلاقه ، وعند محمد والشافعي رحمهما الله زوال الحجر على السفيه بظهور رشده ; لأن الحجارة كان بسفهه ، فانطلاقه يكون بضده وهو رشده والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية