[ ص: 280 ] وأيضا فإن ، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ؛ لأن الله قال في كتابه العزيز : ( الأصل في العقود رضا المتعاقدين إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29 ] ، وقال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) ، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه ، فدل على أنه سبب له ، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب . فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم . وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق ، فكذلك سائر التبرعات ، قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن . وكذلك قوله : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة . وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع ، ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله ، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك .
وأيضا فإن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد . . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به : ينافي العقد المطلق ، فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره ، وإن أريد : ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد ، احتاج إلى دليل على ذلك ، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد . فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود ، فقد جمع بين المتناقضين : بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء . ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا . ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع ، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا [ ص: 281 ] مقصوده [ فإن مقصوده ] الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا . فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : . فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله . فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما ، فلم يكن لغوا ، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله ، فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ، لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه . فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه ، فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج . كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال : لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص ، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور ، كما ذكرناه من القول الأول ، أو يقال : لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي ، وإن كان عاما . أو يقال : تصح ولا تحرم ، إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .
والقول الأول : باطل ؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة ، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم . فقال سبحانه في آية الربا : ( العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) [ البقرة ] ، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا ، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - [ ص: 282 ] يوجب أنه غير منهي عنه . ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ، ولم يأمرهم برد المقبوض ، وقال صلى الله عليه وسلم : . أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم ، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام ، ولم يستفصل [ أحدا ] : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته ، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام ، كما وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية غيلان بن سلمة الثقفي الذي " أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن أسلم وتحته عشر نسوة " ، وكما أمر فيروز الديلمي الذي " أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى أسلم وتحته أختان " ، وكما أمر أمر الصحابة من أسلم من المجوس " أن يفارقوا ذوات المحارم " . ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين ، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع . ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع ، لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .
فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ، ثم أسلموا بعد زواله : مضت ، ولم يؤمروا باستئنافها ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله ، فليس ما عقدوه [ ص: 283 ] بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع ، وكلاهما عندكم سواء .
قلنا : ليس كذلك ، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض ، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ ، لا قبل القبض ولا بعده ، ولم أر الفقهاء من أصحابها وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض ، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه ، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها . كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما ، وإن كان بغير نكاح . فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - وإن لم يقترن بالآخر - [ أقرهم ] الشارع على ذلك ، بخلاف الأموال ، فإن المقصود بعقودها هو التقابض . فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها ، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود .
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم ؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل .
وأيضا فإن ، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها ، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد . ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله . فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود : لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه ، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد ، فإنه آثم ، وإن كان قد صادف الحق . المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها