الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  الآفة الخامسة عشرة : الغيبة :

                                                                  قد نص الله سبحانه وتعالى على ذمها في كتابه الكريم ، وشبه صاحبه بآكل لحم الميتة ، فقال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ الحجرات : 12 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه " .

                                                                  والغيبة تتناول العرض ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ، ومن تتبع عورته يفضحه ولو في جوف بيته " .

                                                                  وعن مجاهد " أنه قال في قوله تعالى : ( ويل لكل همزة لمزة ) [ الهمزة : 1 ] الهمزة : الطعان في الناس ، واللمزة : الذي يأكل لحوم الناس . وقال بعضهم " أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ، ولكن في الكف عن أعراض الناس " . وقال " ابن عباس " : فإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك " .

                                                                  بيان معنى الغيبة وحدودها :

                                                                  اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ، سواء ذكرته بنقص في بدنه ، أو نسبه ، أو في خلقه ، أو في فعله ، أو في قوله ، أو في دينه ، أو في دنياه ، حتى في ثوبه وداره ودابته ، أما البدن فذكرك العمش ، والحول ، والقرع ، والقصر ، والطول ، والسواد ، والصفرة ، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان ، وأما النسب فبأن تقول : " أبوه فاسق أو خسيس أو زبال ، أو نحوه مما يكرهه " ، وأما الخلق فبأن تقول : " سيئ الخلق ، بخيل ، متكبر ، مراء ، شديد الغضب ، جبان ، متهور ، وما يجري مجراه " ، وأما في أفعاله فكقولك : " هو سارق ، كذاب ، شارب خمر ، خائن ، ظالم ، متهاون بالصلاة أو الزكاة ، لا يحترز من النجاسات ، ليس بارا بوالديه ، ونحوه " وأما فعله فكقولك : " إنه قليل الأدب ، متهاون بالناس ، كثير الكلام ، كثير الأكل ، نئوم ، يجلس في غير موضعه " ، وأما في ثوبه فكقولك : " إنه واسع الكم ، طويل الذيل ، وسخ الثياب ، ونحوه " .

                                                                  والقول الجامع في الغيبة ما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه " ، وإنما [ ص: 198 ] حرم الذكر باللسان لما فيه من تفهيم الغير نقصان أخيه وتعريفه بما يكرهه ؛ ولذا كان التعريض به كالتصريح ، والفعل فيه كالقول ، والإشارة ، والإيماء ، والغمز ، والهمز ، والكتابة ، والحركة ، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام . فمن أومأ بيده إلى قصر أحد ، أو طوله ، أو حاكاه في المشي كما يمشي - فهو غيبة ، والكتابة عن شخص في عيب به غيبة ؛ لأن القلم أحد اللسانين ، وكذا قولك : " من قدم من السفر أو بعض من مر بنا اليوم " إذا كان المخاطب يفهمه فهو غيبة ، وكذا من يفهم عيب الغير بصيغة الدعاء كقوله : الحمد لله الذي لم يبتلنا بكذا ، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول : ما أحسن أحوال فلان ، لكن ابتلي بما يبتلى به كلنا ، وهو كذا فيذكر نفسه ، ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ، ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين ، فيقول : سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغى إليه ويعلم ما يقول ، فيذكر الله تعالى ويستعمل اسمه آلة له في تحقيق خبثه ، وكذلك يقول : ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به ، فيكون كاذبا في دعوى الاغتمام ؛ لأنه لو اغتم به لاغتم بإظهار ما يكرهه ، وكذلك يقول : ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه ، وهو في كل ذلك يظهر الدعاء ، والله مطلع على خبث ضميره ، وخفي قصده ، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت عظيم .

                                                                  ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب ، فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها ، وكان يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول : "عجيب ، ما علمت أنه كذلك ، كنت أحسب فيه غير هذا ، عافانا الله من بلائه " فإن كل ذلك تصديق للمغتاب ، والتصديق بالغيبة غيبة ، بل الساكت شريك المغتاب ، إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف ، وفي الحديث : " من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره ، أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق " وفي رواية : " من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة " .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية