[ ص: 233 ] بيان وجوامع ما يراءى به : حقيقة الرياء
اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير ; والمراءى به كثير ويجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس ، وهو البدن ، والزي ، والقول ، والعمل ، والأتباع والأشياء الخارجة .
فأما فكإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين غلبة خوف الآخرة ،0 وكتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر ، ومثله خفض الصوت وإغارة العينين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم أو متوقر للدين أو ضعيف القوة من الجوع ، وعن هذا روي " إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه " لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء . الرياء في الدين بالبدن
وأما فمثل تشعيث الشعر وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ، ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام ، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة ومقتد بالصالحين ، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن ، ومنه التقنع فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ، ومنه الطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم . الرياء بالهيئة والزي
والمراءون بالزي على طبقات كل طبقة منهم يرى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه وإلى ما فوقه وإن كان مباحا ، بل هو عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس : " قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريقة ورغب في الدنيا " .
وأما فرياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لإظهار شدة العناية بأحوال الصالحين ، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق ، وإظهار الغضب للمنكرات ، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ، وتضعيف الصوت في الكلام والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه ، والمجادلة على قصد إفحام الخصم . الرياء بالقول
وأما فكمراءاة المصلي بطول القيام وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات . الرياء بالعمل
وأما كالذي يتكلف أن يستزير عالما من العلماء ليقال : " إن فلانا قد زار فلانا ، أو عابدا من العباد ليقال : إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه ، أو أميرا من الأمراء ليقال : إنهم يتبركون به ، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ وطواف البلاد ليتباهى عند خصمه . المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين
فهذه مجامع ما يرائي به المراءون ، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد [ ص: 234 ] لاعتقاده أنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال .
ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته ، بل يلتمس مع ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد ، ومنهم من يريد انتشار الصيت ، ومنهم من يريد الاشتهار عند الأمراء لتقبل شفاعته فيقوم له جاه عند العامة ، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو كان من الحرام ، وهؤلاء شر طبقات المرائين .