ما يشترك فيه الصبر والشكر
اعلم أنه ما من نعمة من النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تكون بلاء بالإضافة ، ونعمة كذلك ، فرب عبد تكون له الخيرة في الفقر والمرض ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى ، قال الله - تعالى - : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) [ الشورى : 27 ] وقال - تعالى - : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 و 7 ] ، وكذلك الزوجة والولد والقريب وأمثالها ؛ فإن الله - تعالى - لم يخلق شيئا إلا وفيه حكمة ونعمة أيضا .
فإذن في خلق الله - تعالى - البلاء نعمة أيضا إما على المبتلى أو على غير المبتلى ، فإذن كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق ، ولا نعمة مطلقة فيجتمع فيها على العبد وظيفتان : الصبر والشكر جميعا .
فإن قلت : فهما متضادان فكيف يجتمعان إذ لا صبر إلا على غم ، ولا شكر إلا على فرح ؟ فاعلم أن الشيء الواحد قد يغتم به من وجه ويفرح به من وجه آخر ، فيكون الصبر من حيث الاغتمام والشكر من حيث الفرح ، وفي كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها ويشكر عليها :
أحدها : أن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكبر منها ، إذ مقدورات الله - تعالى - لا تتناهى ، فلو ضعفها الله وزادها ماذا كان يرده ويحجزه ؟ فليشكر إذ لم تكن أعظم منها في الدنيا .
الثاني : أنه كان يمكن أن تكون مصيبته في دينه ، وفي الخبر : " " . اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا
الثالث : أنه ما من عقوبة إلا ويتصور أن تؤخر إلى الآخرة ، ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخر ، تهون المصيبة فيخف وقعها ، ومصيبة الآخرة تدوم ، فلعله لم تؤخر عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبته في الدنيا ، فلم لا يشكر الله على ذلك ؟
[ ص: 288 ] الرابع : أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب ، وكان لا بد من وصولها إليه وقد وصلت ووقع الفراغ واستراح من بعضها أو من جميعها ، فهذه نعمة . الخامس : أن ثوابها أكثر منها ، فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة ، وكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذي يؤلم في الحال وينفع في المآل ، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر ؛ لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة ، ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة ، والأخبار الواردة في ثواب الصبر على المصائب كثيرة ، ويكفي في ذلك قوله - تعالى - : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] .
ثم مع فضل النعمة في البلاء كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة ، وكان يستعيذ من شماتة الأعداء وغيرها ، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - : " سلوا الله العافية ؛ فما أعطي أحد أفضل من العافية إلا اليقين " وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك ، فعافية القلب أعلى من عافية البدن ، وفي دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " وعافيتك أحب إلي " .
فنسأل الله - تعالى - المان بفضله على جميع خلقه العفو والعافية في الدين والدنيا ، والآخرة لنا ولجميع المسلمين .