أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فاكتبوه ) فاعلم
nindex.php?page=treesubj&link=24271أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما : الكتابة وهي قوله ههنا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فاكتبوه ) الثاني : الإشهاد وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=24271_24272فائدة الكتابة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل ، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ، ويدخل فيه الجحد ، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين ؛ لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين ، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم .
المسألة الثانية : القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه ، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه ، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي واختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935محمد بن جرير الطبري ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي : يشهد ولو على دستجة بقل ، وقال آخرون : هذا الأمر محمول على الندب ، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين ، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد ، وذلك إجماع على عدم وجوبهما ، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012041بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " وقال قوم : بل كانت واجبة ، إلا أن ذلك صار منسوخا بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) [ البقرة : 283] وهذا مذهب
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي والحكم nindex.php?page=showalam&ids=16008وابن عيينة ، وقال
التيمي : سألت
الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فإن أمن بعضكم بعضا ) واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك
nindex.php?page=treesubj&link=24271الكتابة شرطين :
الشرط الأول : أن يكون الكاتب عدلا وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) واعلم أن قوله تعالى : ( فاكتبوه ) ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكن ، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتبا ، فصار معنى قوله : ( فاكتبوه ) أي لا بد من حصول هذه الكتابة ، وهو كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء ) [ المائدة : 38] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل ، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إما الإمام أو نائبه أو المولى ، فكذا ههنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتابة من أي شخص كان .
أما قوله : ( بالعدل ) ففيه وجوه :
الأول : أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه .
الثاني : إذا كان فقيها وجب أن يكتب بحيث لا يخص
[ ص: 97 ] أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه .
الثالث : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين .
الرابع : أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها ، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيها عارفا بمذاهب المجتهدين ، وأن يكون أديبا مميزا بين الألفاظ المتشابهة .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَاكْتُبُوهُ ) فَاعْلَمْ
nindex.php?page=treesubj&link=24271أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي الْمُدَايَنَةِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : الْكِتَابَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ هَهُنَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَاكْتُبُوهُ ) الثَّانِي : الْإِشْهَادُ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=24271_24272فَائِدَةُ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجَلُ ، تَتَأَخَّرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ وَيَتَخَلَّلُهُ النِّسْيَانُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَحْدُ ، فَصَارَتِ الْكِتَابَةُ كَالسَّبَبِ لِحِفْظِ الْمَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ قُيِّدَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ يَحْذَرُ مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ ، وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ يَحْذَرُ عَنِ الْجُحُودِ ، وَيَأْخُذُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَقْتَ حُلُولِ الدَّيْنِ ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ لِلْوُجُوبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالَ قَوْمٌ بِالْوُجُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ
عَطَاءٍ nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ nindex.php?page=showalam&ids=12354وَالنَّخَعِيِّ وَاخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12354النَّخَعِيُّ : يُشْهِدُ وَلَوْ عَلَى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ ، وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَرَى جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ يَبِيعُونَ بِالْأَثْمَانِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِمَا ، وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِهِمَا أَعْظَمَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012041بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ " وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) [ الْبَقَرَةِ : 283] وَهَذَا مَذْهَبُ
الْحَسَنِ nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ nindex.php?page=showalam&ids=16008وَابْنِ عُيَيْنَةَ ، وَقَالَ
التَّيْمِيُّ : سَأَلْتُ
الْحَسَنَ عَنْهَا فَقَالَ : إِنْ شَاءَ أَشْهَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشْهِدْ ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ هَذِهِ الْمُدَايَنَةِ اعْتَبَرَ فِي تِلْكَ
nindex.php?page=treesubj&link=24271الْكِتَابَةِ شَرْطَيْنِ :
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ عَدْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( فَاكْتُبُوهُ ) ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ ، لَكِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كَاتِبًا ، فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( فَاكْتُبُوهُ ) أَيْ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً ) [ الْمَائِدَةِ : 38] فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي خِطَابَ الْكُلِّ بِهَذَا الْفِعْلِ ، إِلَّا أَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ ، إِمَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَوِ الْمَوْلَى ، فَكَذَا هَهُنَا ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ هَذِهِ الْكِتَابَةِ مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ .
أَمَّا قَوْلُهُ : ( بِالْعَدْلِ ) فَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ ، وَيَكْتُبُهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ .
الثَّانِي : إِذَا كَانَ فَقِيهًا وَجَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لَا يَخُصُّ
[ ص: 97 ] أَحَدَهُمَا بِالِاحْتِيَاطِ دُونَ الْآخَرِ ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكْتُبَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ آمِنًا مِنْ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَجِدُ قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِي الْمُرَادِ بِهَا ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَأَنْ يَكُونَ أَدِيبًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ .