( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين )
قوله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين )
اعلم أن الله تعالى بين في أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على النصارى بالزوجة والولد ، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام ، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم ، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين فساد قول لآدم - عليه السلام - أن يكون ابنا لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى - عليه السلام - أن يكون ابنا لله تعالى عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم - عليه السلام - من التراب لم يبعد أيضا انخلاق عيسى - عليه السلام - من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ، ومن أنصف وطلب الحق ، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى ، فعند ذلك قال تعالى : ( فمن حاجك ) بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة ، فقال : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) إلى آخر الآية ، ثم هاهنا مسائل :
المسألة الأولى : اتفق أني حين كنت بخوارزم ، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث ، وقال لي : ما الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت له : كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن رددنا التواتر ، أو قبلناه لكن قلنا : إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام ، وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد - عليه السلام - ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول ، فقال النصراني : أنا لا أقول في عيسى - عليه السلام - إنه كان نبيا ، بل أقول إنه [ ص: 70 ] كان إلها ، فقلت له : الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا ، وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما ، وقتل بعد أن كان حيا على قولكم وكان طفلا أولا ، ثم صار مترعرعا ، ثم صار شابا ، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما .
والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة : أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيا على الخشبة ، وقد مزقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد ، فإن كان إلها أو كان الإله حالا فيه أو كان جزء من الإله حال فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه ؟ ولم لم يهلكهم بالكلية ؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم ! وبالله إنني لأتعجب جدا ! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته ، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده .
والوجه الثالث : وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد ، أو يقال حل الإله بكليته فيه ، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة ، أما الأول : فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم ، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله ! ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز ! وأما الثاني : وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم ، فهو أيضا فاسد ؛ لأن الإله لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسما ، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل ، وكان الإله محتاجا إلى غيره ، وكل ذلك سخف ، وأما الثالث : وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله ، وجزء من أجزائه ، فذلك أيضا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية ، فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلها ، وإن لم يكن معتبرا في تحقق الإلهية ، لم يكن جزءا من الإله ، فثبت فساد هذه الأقسام ، فكان قول النصارى باطلا .
الوجه الرابع : في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى - عليه السلام - كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ، ولو كان إلها لاستحال ذلك ؛ لأن الإله لا يعبد نفسه ، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور ، دالة على فساد قولهم ، ثم قلت للنصراني : وما الذي دلك على كونه إلها ؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى ، فقلت له هل تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا ؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع ، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، فأقول : لم جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام ، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد ؟ فقال : الفرق ظاهر ، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه ، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك ، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود هاهنا ، فقلت له : تبين [ ص: 71 ] الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى : فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل ، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، وفي حق الكلب والسنور والفأر ، ثم قلت : إن مذهبا يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة .
الوجه الخامس : أن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حيا ؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ولا ابنا للإله ، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى ، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم .
المسألة الثانية : روي أنه - عليه السلام - لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم ، فقال عليه السلام : " إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم " ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك ، فلما رجعوا قالوا للعاقب : وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وعليه مرط من شعر أسود ، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي - رضي الله عنه - خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ، فقال صلوات الله عليه : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ، فقال : فإني أناجزكم القتال ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة : ألفا في صفر ، وألفا في رجب ، وثلاثين درعا عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، وقال : والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو عنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله ، حتى الطير على رءوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا ، وروي الحسن - رضي الله عنه - فأدخله ، ثم جاء الحسين - رضي الله عنه - فأدخله ثم فاطمة ، ثم علي - رضي الله عنهما ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ الأحزاب : 33 ] واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث . أنه - عليه السلام - لما خرج في المرط الأسود ، فجاء