قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم ، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه [ ص: 18 ] فهزموا أبا سفيان ، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسلمين ، خالد بن الوليد عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، وأقبل يريد قتله ، فذب عنه ورمى وهو صاحب الراية يوم مصعب بن عمير بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، وكان الصارخ الشيطان ، ففشا في الناس خبر قتله ، فهنالك قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم ، فقال أنس بن النضر عم : يا قوم إن كان قد قتل أنس بن مالك محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ، فقال : إن كان قد قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم ، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته ، احتمله ، ودافع عنه طلحة بن عبيد الله أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ينادي ويقول : إلي عباد الله حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم ، فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ، ومعنى الآية ( لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ؛ لأن ، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا . الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة
المسألة الثانية : قال أبو علي : الرسول جاء على ضربين :
أحدهما : يراد به المرسل ، والآخر الرسالة ، وهاهنا المراد به المرسل بدليل قوله : ( إنك لمن المرسلين ) [البقرة : 252] وقوله : ( ياأيها الرسول بلغ ) [المائدة : 67] وفعول قد يراد به المفعول ، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب ، والرسول بمعنى الرسالة كقوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة ، قال : ومن هذا قوله تعالى : ( إنا رسولا ربك ) ونذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ثم قال : ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء ، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ، ونظيره قوله : هل زيد قائم ؟ فأنت إنما تستخبر عن قيامه ، إلا أنك أدخلت (هل) على الاسم والله أعلم .
المسألة الثانية : أنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه عليه السلام لا يقتل قال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) [الزمر : 30] وقال : ( والله يعصمك من الناس ) [المائدة : 67] فليس لقائل أن يقول : لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟ فإن الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن ، فإنك [ ص: 19 ] تقول : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : ( صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [الأنبياء : 22] فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد ، فكذا هاهنا .
والثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه ، فكذا هاهنا .
والثالث : أن الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه ؛ لأنه فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد .
المسألة الثالثة : قوله : ( انقلبتم على أعقابكم ) أي صرتم كفارا بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار : إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد . وحاصل الكلام أنه تعالى بين أن قتله لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين :
الأول : بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم .
والثاني : أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة إليه ، فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم .
المسألة الرابعة : ليس لقائل أن يقول : إن قوله : ( أفإن مات أو قتل ) شك وهو على الله تعالى لا يجوز ، فإنا نقول : المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد .
ثم قال تعالى : ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) والغرض منه تأكيد الوعيد ؛ لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين ، بل المراد أنه لا يضر إلا نفسه ، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب : إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا هاهنا ، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال : ( وسيجزي الله الشاكرين ) فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به ، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله : ( وسيجزي الله الشاكرين ) وروى عن محمد بن جرير الطبري علي رضي الله عنه أنه قال : المراد بقوله : ( وسيجزي الله الشاكرين ) أبو بكر وأصحابه ، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب .