ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156nindex.php?page=treesubj&link=34077_28974ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) وفيه وجهان :
الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [القصص : 8] إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي ، فذلك الشخص إنما مات أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصر في منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة .
الوجه الثاني : أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء . والفوز بالأماني ، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة .
الوجه الثالث : أن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=30564_29468_28766الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات وإعلاء الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب .
الوجه الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث إنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة .
الوجه الخامس : أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد بالحسرة ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) [الأنعام : 125] .
الوجه السادس : أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم .
والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156ليجعل الله ) متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم .
[ ص: 47 ] ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156والله يحيي ويميت ) وفيه وجهان :
الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة ، وتقريره أن
nindex.php?page=treesubj&link=33679المحيي والمميت هو الله ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وأن علم الله لا يتغير ، وأن حكمه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟
فإن قيل : إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف ، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا .
الجواب : أن حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة ، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
والوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156والله يحيي ويميت ) يريد : يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156nindex.php?page=treesubj&link=34077_28974لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) وَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، مِثْلَ مَا يُقَالُ : رَبَّيْتُهُ لِيُؤْذِيَنِي وَنَصَرْتُهُ لِيَقْهَرَنِي وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) [الْقَصَصِ : 8] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : ذَكَرُوا فِي بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَيْفَ اسْتَعْقَبَ حُصُولَ الْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ أَقَارِبَ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ إِذَا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ ازْدَادَتِ الْحَسْرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ بَالَغَ فِي مَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَعَنْ ذَلِكَ الْغَزْوِ لَبَقِيَ ، فَذَلِكَ الشَّخْصُ إِنَّمَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَصَّرَ فِي مَنْعِهِ ، فَيَعْتَقِدُ السَّامِعُ لِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إِلَى مَوْتِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ أَوْ قَتَلَهُ ، وَمَتَى اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَزْدَادُ حَسْرَتُهُ وَتَلَهُّفُهُ ، أَمَّا الْمُسْلِمُ الْمُعْتَقِدُ فِي أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ ، لَمْ يَحْصُلْ أَلْبَتَّةَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَسْرَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُنَافِقُونَ لَا تُفِيدُهُمْ إِلَّا زِيَادَةَ الْحَسْرَةِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَلْقَوْا هَذِهِ الشُّبْهَةَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ تَثَبَّطُوا عَنِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُ ، فَإِذَا اشْتَغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجِهَادِ وَالْغَزْوِ ، وَوَصَلُوا بِسَبَبِهِ إِلَى الْغَنَائِمِ الْعَظِيمَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ . وَالْفَوْزِ بِالْأَمَانِيِّ ، بَقِيَ ذَلِكَ الْمُتَخَلِّفُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْخَيْبَةِ وَالْحَسْرَةِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=30564_29468_28766الْحَسْرَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا رَأَوْا تَخْصِيصَ اللَّهِ الْمُجَاهِدِينَ بِمَزِيدِ الْكَرَامَاتِ وَإِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ ، وَتَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِمَزِيدِ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالْعِقَابِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَوْرَدُوا هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَجَدُوا مِنْهُمْ قَبُولًا لَهَا ، فَرِحُوا بِذَلِكَ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَاجَ كَيْدُهُمْ وَمَكْرُهُمْ عَلَى أُولَئِكَ الضَّعَفَةِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّهُ سَيَصِيرُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي تَكْثِيرِ الشُّبُهَاتِ وَإِلْقَاءِ الضَّلَالَاتِ يُعْمِي قُلُوبَهُمْ فَيَقَعُونَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْحَيْرَةِ وَالْخَيْبَةِ وَضِيقِ الصَّدْرِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَسْرَةِ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) [الْأَنْعَامِ : 125] .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُمْ مَتَى أَلْقَوْا هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى أَقْوِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ فَيَضِيعُ سَعْيُهُمْ وَيَبْطُلُ كَيْدُهُمْ فَتَحْصُلُ الْحَسْرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156لِيَجْعَلَ اللَّهُ ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ ، وَالتَّقْدِيرُ : لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ انْتِفَاءَ كَوْنِكُمْ مِثْلَهُمْ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ وَمُضَادَّتَهُمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ .
[ ص: 47 ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33679الْمُحْيِيَ وَالْمُمِيتَ هُوَ اللَّهُ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ آخَرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ ، وَأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْقَلِبُ ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَتَبَدَّلُ ، فَكَيْفَ يَنْفَعُ الْجُلُوسُ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْمَوْتِ ؟
فَإِنْ قِيلَ : إِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يَتَبَدَّلُ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ مُفِيدًا فِي الْحَذَرِ عَنِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ ، فَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يَتَبَدَّلُ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ مُفِيدًا فِي الِاحْتِرَازِ عَنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ التَّكْلِيفِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْرِيرُ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَالتَّكْلِيفِ ، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ يُفْضِي بِالْآخِرَةِ إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا .
الْجَوَابُ : أَنَّ حُسْنَ التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِعِلَّةٍ وَرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ : أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابَ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) يُرِيدُ : يُحْيِي قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَأَهِلِ طَاعَتِهِ بِالنُّورِ وَالْفُرْقَانِ ، وَيُمِيتُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ .