(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة وأجاب
نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة ، أورد الكفار على
نوح كلامين :
الأول : أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا : يا
نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم ، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد ، وهذا يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=32027_32022_33953الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء ، وعلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=30549_32408التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار .
والثاني : أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به ، فقالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ) والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي ، وإنما هو خلق الله تعالى ، فيفعله إن شاء كما شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحدا لا يعجزه ، أي : لا يمنعه منه ، والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير ، فيوصف بأنه أعجزه ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33وما أنتم بمعجزين ) أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده ، فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم ، وقد قيل : معناه : وما أنتم بمانعين ، وقيل : وما أنتم بمصونين ، وقيل : وما أنتم بسابقين إلى الخلاص ، وهذه الأقوال متقاربة .
[ ص: 175 ] واعلم أن
نوحا عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ) أي : إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي البتة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد ، وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه ، قالوا : إن
نوحا عليه السلام قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=33953_28982ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) والتقدير : لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم ، وهذا صريح في مذهبنا ، أما
المعتزلة فإنهم قالوا : ظاهر الآية يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30455_28783الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول ، وهذا مسلم ، فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين ، لكن لم قلتم : إنه تعالى أراد هذا الإغواء ؛ فإن النزاع ما وقع إلا فيه ؟ بل نقول : إن
نوحا عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم ، بل فوض الاختيار إليهم . وبيانه من وجهين :
الأول : أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة ، وإذا لم يكن خاليا عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم ، فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه .
الثاني : أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم ، لصار هذا عذرا لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ، ولصار
نوح منقطعا في مناظرتهم ؛ لأنهم يقولون له : إنك سلمت أن الله أغوانا ، فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة ، فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين ، فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة ، فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم ، لصار هذا حجة للكفار على
نوح عليه السلام ، ومعلوم أن
نوحا عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاما يصير بسببه مفحما ملزما عاجزا عن تقرير حجة الله تعالى ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول
المجبرة ، ثم إنهم ذكروا وجوها من التأويلات :
الأول : أولئك الكفار كانوا مجبرة ، وكانوا يقولون : إن كفرهم بإرادة الله تعالى ، فعند هذا قال
نوح عليه السلام : إن نصحه لا ينفعهم ، إن كان الأمر كما قالوا ، ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد : لا أقدر على غير ما أنا عليه ، فيقول الوالد : فلن ينفعك إذا نصحي ولا زجري ، وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك .
الثاني : قال
الحسن : معنى (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34يغويكم ) أي : يعذبكم ، والمعنى : لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=19722_30454_29723الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل ، وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب .
الثالث : قال
الجبائي : الغواية هي الخيبة من الطلب ، بدليل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=59فسوف يلقون غيا ) [مريم : 59] أي : خيبة من خير الآخرة ، قال الشاعر :
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
الرابع : أنه
nindex.php?page=treesubj&link=30558_30539_28786إذا أصر على الكفر وتمادى فيه ، منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه ، فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه ، فلهذا السبب حسن أن يقال : إن الله تعالى أغواه . هذا جملة كلمات
المعتزلة في هذا الباب . والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مرارا وأطوارا فلا فائدة في الإعادة .
المسألة الثانية : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر ، وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدما في الوجود ؛ وذلك
[ ص: 176 ] لأن الرجل إذا
nindex.php?page=treesubj&link=27330قال لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار ، كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول ، فإذا ذكر بعده شرطا آخر مثل أن يقول : إن أكلت الخبز ، كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني ، والشرط مقدم على المشروط في الوجود ، فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول ، أما إن لم يوجد الشرط المذكور ثانيا لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول ، هذا هو التحقيق في هذا التركيب ، فلهذا المعنى قال الفقهاء : إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى ، والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى .
واعلم أن
نوحا عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28982_33953_30336_30347هو ربكم وإليه ترجعون ) ، وهذا نهاية الوعيد ؛ أي : هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت ، وبعد الموت مرجعكم إليه ، وهذا يفيد نهاية التحذير .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ وَأَجَابَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا بِالْجَوَابَاتِ الْمُوَافِقَةِ الصَّحِيحَةِ ، أَوْرَدَ الْكُفَّارُ عَلَى
نُوحٍ كَلَامَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَثْرَةِ الْمُجَادَلَةِ فَقَالُوا : يَا
نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ فِي الْجِدَالِ مَعَهُمْ ، وَذَلِكَ الْجِدَالُ مَا كَانَ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32027_32022_33953الْجِدَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَفِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30549_32408التَّقْلِيدَ وَالْجَهْلَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ حِرْفَةُ الْكُفَّارِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ ، فَقَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَ عَنْهُ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْزَالَ الْعَذَابِ لَيْسَ إِلَيَّ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ كَمَا شَاءَ ، وَإِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ الْعَذَابِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُعْجِزُهُ ، أَيْ : لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ ، وَالْمُعْجِزُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا عِنْدَهُ لِتَعَذُّرِ مُرَادِ الْغَيْرِ ، فَيُوَصَفُ بِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=33وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أَيْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى فِعْلِ مَا عِنْدَهُ ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُ بِكُمْ ، وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ : وَمَا أَنْتُمْ بِمَانِعِينَ ، وَقِيلَ : وَمَا أَنْتُمْ بِمَصُونِينَ ، وَقِيلَ : وَمَا أَنْتُمْ بِسَابِقِينَ إِلَى الْخَلَاصِ ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ .
[ ص: 175 ] وَاعْلَمْ أَنَّ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِخَاتِمَةٍ قَاطِعَةٍ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ) أَيْ : إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْبَتَّةَ ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْعَبْدِ ، وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ ، قَالُوا : إِنَّ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=33953_28982وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) وَالتَّقْدِيرُ : لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَيُضِلَّكُمْ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَذْهَبِنَا ، أَمَّا
الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30455_28783اللَّهَ تَعَالَى إِنْ أَرَادَ إِغْوَاءَ الْقَوْمِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِنُصْحِ الرَّسُولِ ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ ، فَإِنَّا نَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ نُصْحُ النَّاصِحِينَ ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ : إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ هَذَا الْإِغْوَاءَ ؛ فَإِنَّ النِّزَاعَ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ ؟ بَلْ نَقُولُ : إِنَّ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ ، بَلْ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ . وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَهُمْ لَمَا بَقِيَ فِي النُّصْحِ فَائِدَةٌ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَنْصَحَ الْكُفَّارَ ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْكُفَّارِ وَنَصِيحَتِهِمْ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النُّصْحَ غَيْرُ خَالٍ عَنِ الْفَائِدَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ ، فَهَذَا صَارَ حُجَّةً لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُمْ ، لَصَارَ هَذَا عُذْرًا لَهُمْ فِي عَدَمِ إِتْيَانِهِمْ بِالْإِيمَانِ ، وَلَصَارَ
نُوحٌ مُنْقَطِعًا فِي مُنَاظَرَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ : إِنَّكَ سَلَّمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَغْوَانَا ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي نُصْحِكَ وَلَا فِي جِدِّنَا وَاجْتِهَادِنَا فَائِدَةٌ ، فَإِذَا ادَّعَيْتَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَغْوَانَا فَقَدْ جَعَلْتَنَا مَعْذُورِينَ ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا قَبُولُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ، لَصَارَ هَذَا حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ كَلَامًا يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مُفْحَمًا مُلْزَمًا عَاجِزًا عَنْ تَقْرِيرِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ
الْمُجَبِّرَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ :
الْأَوَّلُ : أُولَئِكَ الْكُفَّارُ كَانُوا مُجَبِّرَةً ، وَكَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ كُفْرَهُمْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّ نُصْحَهُ لَا يَنْفَعُهُمْ ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُعَاقِبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ عَلَى ذَنْبِهِ فَيَقُولُ الْوَلَدُ : لَا أَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنَا عَلَيْهِ ، فَيَقُولُ الْوَالِدُ : فَلَنْ يَنْفَعَكَ إِذًا نُصْحِي وَلَا زَجْرِي ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِذَلِكَ .
الثَّانِي : قَالَ
الْحَسَنُ : مَعْنَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34يُغْوِيَكُمْ ) أَيْ : يُعَذِّبَكُمْ ، وَالْمَعْنَى : لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ فَآمَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19722_30454_29723الْإِيمَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يُقْبَلُ ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِذَا آمَنْتُمْ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ .
الثَّالِثُ : قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : الْغَوَايَةُ هِيَ الْخَيْبَةُ مِنَ الطَّلَبِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=59فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [مَرْيمَ : 59] أَيْ : خَيْبَةً مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا
الرَّابِعُ : أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=30558_30539_28786إِذَا أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادَى فِيهِ ، مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَلْطَافَ وَفَوَّضَهُ إِلَى نَفْسِهِ ، فَهَذَا شَبِيهُ مَا إِذَا أَرَادَ إِغْوَاءَهُ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ . هَذَا جُمْلَةُ كَلِمَاتِ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ بَعْدَهُ شَرْطٌ آخَرُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُؤَخَّرُ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ ؛ وَذَلِكَ
[ ص: 176 ] لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=27330قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، كَانَ الْمَفْهُومُ كَوْنَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الدُّخُولِ ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ أَكَلْتِ الْخُبْزَ ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِي الْوُجُودِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حَصَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي تَعَلَّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ : إِنَّ الشَّرْطَ الْمُؤَخَّرَ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى ، وَالْمُقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28982_33953_30336_30347هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَعِيدِ ؛ أَيْ : هُوَ إِلَهُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَبَّاكُمْ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي ذَوَاتِكُمْ وَفِي صِفَاتِكُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ ، وَهَذَا يُفِيدُ نِهَايَةَ التَّحْذِيرِ .