( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) .
[ ص: 71 ] قوله تعالى : ( قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) .
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضا قوله : ( ثم ائتوا صفا ) [ طه : 64 ] صار ذلك مغنيا عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا : ( إما أن تلقي ) لدلالة ما تقدم عليه وقوله : ( إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ) معناه إما أن تلقي ما معك قبلنا ، وإما أن نلقي ما معنا قبلك ، وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له ، فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته ، ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال : ( بل ألقوا ) أما قوله : ( بل ألقوا ) ففيه سؤالان :
السؤال الأول : كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام : ( بل ألقوا ) فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفرا . والجواب من وجوه :
أحدها : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية ; لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيمانا وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى ، وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال .
وثانيها : ذلك الأمر كان مشروطا والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله تعالى : ( فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ البقرة : 23 ] أي إن كنتم قادرين .
وثالثها : أنه لما تعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزا . وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ، ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ، ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا .
ورابعها : أن لا يكون ذلك أمرا بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسا لكي ينكشف الحق .
وخامسها : أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارها لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله : ( ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمرا لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهيا وآمرا بالفعل الواحد محال ، فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال .
السؤال الثاني : لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول : إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس ، فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز . والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاءوا لمعارضته فقال عليه السلام : لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولا لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز ، ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سببا لإزالة الشبهة ، وأما على التقدير الأول فإنه يكون سببا لوقوع الشبهة فكان ذلك [ ص: 72 ] أولى . أما فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) ففيه مسائل : قوله : (
المسألة الأولى : قال رضي الله عنهما : " ألقوا حبالهم وعصيهم " ميلا من هذا الجانب وميلا من هذا الجانب فخيل إلى ابن عباس موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى فخاف ، فلما قيل له : ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ) موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي ، ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ، ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا فصاح ألقى بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصا كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئا إلا أكلته ، فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا : أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحرا لبقيت فخروا سجدا وقالوا : ( آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) [ الأعراف : 121 ، 122 ] .
المسألة الثانية : اختلفوا في قال عدد السحرة : كانوا سبعين ألفا مع كل واحد عصا وحبل . وقال القاسم بن سلام السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفا مع كل واحد عصا وحبل ، وقال وهب : كانوا خمسة عشر ألفا ، وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة : ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الإسكندرية . وقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل ، أكرههم فرعون على ذلك ، واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير ، وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه ، والأقوال إذا تعارضت تساقطت .
المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : يقال في إذا هذه " إذا " المفاجأة ، والتحقيق فيها أنها " إذا " الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصبا فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله تعالى : ( فإذا حبالهم وعصيهم ) ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل ، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اهـ .
المسألة الرابعة : قرئ " عصيهم " بالضم وهو الأصل والكسر إتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي ، وقرئ " تخيل " بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي ، وقرئ بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر ، وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها .
المسألة الخامسة : الهاء في قوله : ( يخيل إليه ) كناية عن موسى عليه السلام ، والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حيا من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ، ويقال : إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك . ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى ، فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلا بقوله تعالى : ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) [ الأعراف : 116 ] وبقوله تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود [ ص: 73 ] فإذن المراد أنه شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى .