الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) فاعلم أنه مشتمل على بحثين : أحدهما : أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت . والثاني : أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم . أما البحث الأول ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكا ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا : رأينا في العالم خيرا وشرا ولذة وألما وحياة وموتا وصحة وسقما وغنى وفقرا ، وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيرا وشريرا معا ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا للخير والآخر فاعلا للشر . ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحدا لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخص ذلك بالموت والألم والفقر ، فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ؛ لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الابتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في الدلالة على أنه سبحانه ( لا يسأل عما يفعل ) أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه : أحدها : أنه لو كان كل شيء معللا بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنيا عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته ، وكما أن ذاته منزهة عن الافتقار إلى المؤثر والعلة ، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر . وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلا ، وحينئذ يكون موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلا لله تعالى أيضا فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال . وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم ، وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل . ورابعها : أن من فعل فعلا لغرض فإما أن يكون متمكنا من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكنا منه . فإن كان متمكنا منه كان توسط تلك الواسطة عبثا ، وإن لم يكن متمكنا منه كان عاجزا والعجز على الله تعالى محال ، أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض ، وكل ذلك في حق الله تعالى محال . وخامسها : أنه لو كان فعله معللا بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائدا إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط . وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئا لأجل [ ص: 135 ] شيء . وسادسها : هو أنه لو فعل فعلا لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون ، فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضا ، وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصا بذاته كاملا بغيره وذلك محال ، فإن قلت : وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء ، أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم ، قلنا : تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية ، ويعود التقسيم الأول . وسابعها : وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه ، وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك . وثامنها : وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك ؟ إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال ، أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضا محال ، لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له ، وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل ؟ فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر ، وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالا أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية