المسألة السادسة : ذكروا في الأسف وجوها :
أحدها : أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله : غضبان يفيد أصل الغضب وقوله : " أسفا " يفيد كماله .
وثانيها : قال الأكثرون حزنا وجزعا يقال : أسف يأسف أسفا إذا حزن فهو آسف .
وثالثها : قال قوم : الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياظ والغضب بأن من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه ، والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله : ( فإنا قد فتنا قومك من بعدك ) أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم ، بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب : وقد فعل ذلك بقوله : ( إن هي إلا فتنتك ) [ الأعراف : 155 ] ومجموع تلك المعاتبات أمور :
أحدها : قوله : ( يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ) وفيه سؤالان :
السؤال الأول : قوله : ( ألم يعدكم ربكم ) هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا إلههم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام . الجواب : أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام .
السؤال الثاني : ما المراد بذلك الوعد الحسن . الجواب : ذكروا وجوها :
أحدها : أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله : ( وواعدناكم جانب الطور الأيمن ) .
وثانيها : أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات .
وثالثها : الوعد هو العهد وهو قول وذلك العهد هو قوله تعالى : ( مجاهد ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ) إلى قوله : ( ثم اهتدى ) والدليل عليه قوله بعد ذلك : ( أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) فكأنه قال : أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ( ولا تطغوا فيه ) .
ورابعها : الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعدا حسنا في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا ، أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة . وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم ، وقد فعل ذلك ثم قال : ( أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية ، واعلم أن طول العهد يحتمل أمورا :
أحدها : أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة [ ص: 89 ] المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله : ( فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) [ الحديد : 16 ] .
وثانيها : يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بإزاء ليلة وردوه إلى عشرين . قال القاضي : هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد .
وثالثها : أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة ، فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد ، وأما قوله : ( أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد ذلك ، ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك ، ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام . أما قوله : ( الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات فأخلفتم موعدي ) فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان :
أحدهما : أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره .
والثاني : ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور ، فعند هذا قالوا : ( ما أخلفنا موعدك بملكنا ) وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان :
الأول : أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا : إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه ، وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى : ( وإذ فرقنا بكم البحر ) [ البقرة : 50 ] ، ( وإذ قتلتم نفسا ) [ البقرة : 72 ] وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضا على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سببا لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة .
الوجه الثاني : أن هذا قول عبدة العجل ، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا . فإن قيل : كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة ، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم ، قلنا : هذا غير ممتنع في حق البله من الناس ، واعلم أن في " بملكنا " ثلاث قراءات ، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ، ونافع وعاصم بفتح الميم ، وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر ، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل . وأما الضم فهو السلطان ، ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا : ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " حملنا " مخففة من الحمل ، وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر : " حملنا " مشددة ، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ، ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه :
أحدها : أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك .
وثانيها : جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله .
وثالثها : أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم ، أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزرا لأنه ثقل ثم فيه احتمالات :
أحدها : أنه لكثرتها كانت أثقالا .
وثانيها : أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالا .
وثالثها : المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاما ، روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال : إنها نجسة فتطهروا منها ، وقال السامري : إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول . وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده : هذا كله إثم وذنب .
ورابعها : أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها [ ص: 90 ] أوزارا كما يقال مثله في آلات المعاصي .
أما قوله : ( فقذفناها ) فذكروا فيه وجوها في أنهم أين قذفوها ؟
الوجه الأول : قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظارا لعود موسى عليه السلام .
والوجه الثاني : قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك .
الوجه الثالث : في موضع جمع فيه النار ثم قالوا : فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا ، أما قوله : ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حيا أم لا ؟
فالقول الأول : لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل .
والقول الثاني : أنه صار حيا وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : قوله : ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) [ طه : 96 ] ولو لم يصر حيا لما بقي لهذا الكلام فائدة .
وثانيها : أنه تعالى سماه عجلا والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسدا وهو إنما يتناول الحي .
وثالثها : أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن جائز لأنه لا يحصل الالتباس وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع ، وروى ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية عكرمة عن أن ابن عباس هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال : اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزا للنبي ، أما قوله : ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ) [ طه : 88 ] ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسماوات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ، ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك ، فكيف قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ؟ وجوابه : لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم ، وإن كان ذلك أيضا في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية ، ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة ، وأما قوله : ( فنسي ) ففيه وجوه :
الأول : أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله : ( أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ) أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلها ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية .
الوجه الثاني : أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام ، والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين .
الوجه الثالث : فنسي وقت الموعد في الرجوع ، أما قوله : ( ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ) فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر ، وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفا بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ مريم : 42 ] وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي ههنا بحثان :
البحث الأول : قال الزجاج : الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع ، وهذا كقوله : ( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ) [ المائدة : 71 ] بمعنى أنه لا تكون وقرئ بالنصب أيضا على أن " أن " هذه هي [ ص: 91 ] الناصبة للأفعال .
البحث الثاني : هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى : ( ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) [ الأعراف : 148 ] وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام : ( ألهم أرجل يمشون بها ) [ الأعراف : 195 ] وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها ; لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة ، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط .
الثالث : قال بعض اليهود لعلي عليه السلام : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم ؟ فقال : إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه ، وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .