( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين )
البرهان الثالث : قوله تعالى : ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ) اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولا ثم بصفات الإنسان ثانيا وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثا وهو قوله : ( هو الذي ذرأكم في الأرض ) واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال : ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض ) فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض ، وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزا جسما ، واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) ( الملك : 2 ) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب ، ذكر وجوها من الدلائل على قدرته ، ثم ختمها بقوله : ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض ) ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده : ( وإليه تحشرون ) فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب .
واعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين :
أحدهما : أنهم طالبوه بتعيين الوقت ، وهو قوله تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو مسلم : إنه تعالى قال : يقول ، بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ، ويحتمل الماضي ، والتقدير : فكانوا يقولون هذا الوعد .
المسألة الثانية : لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية ، ولعلهم كانوا يقولونها إبهاما للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له .
المسألة الثالثة : الوعد المسؤول عنه ما هو ؟ فيه وجهان :
أحدهما : أنه القيامة .
والثاني : أنه مطلق العذاب .
وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله . [ ص: 66 ]
ثم أجاب الله عن هذا السؤال بقوله تعالى : ( قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين )
والمراد أن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع ، فالعلم الأول حاصل عندي ، وهو كاف في الإنذار والتحذير ، أما العلم الثاني فليس إلا لله ، ولا حاجة في كوني نذيرا مبينا إليه .