الحمد لله، الذي جعلنا بنعمة الإيمان إخوانا،
فقال : ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10)
وجعل من لوازم استمرار خيرية الأمة المسلمة، وتميزها عن سائر الأمم، السائدة منها، والبائدة، حمل الحق، والدفاع عنه، ومحاربة الظلم، وحماية المظلومين من الناس، أينما كانوا،
فقال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران: 110) ،
بل جعل الغاية من النبوات، وعلى الأخص النبوة الخاتمة: إلحاق الرحمة بالناس جميعا، بالعالمين،
قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء:107) ،
وشرع الجهاد وأوجبه، وهو: بذل الجهد، بالنفس والمال، دفاعا عن الحق، واسترداد لإنسانية الإنسان، وتحقيقا لحريته، في الاختيار، والحيلولة دون الفتنة، وحماية للمستضعفين، من الرجال، والنساء، والولدان،
فقال تعالى : ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) (النساء:75) [ ص: 9 ]
والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي عاني في طفولته، وشبابه، وشيخوخته، معاناة الناس، وعاش هـمومهم، من التيم، والفقر، والمناخ، والطعام، والشراب، والصحة، والمرض، والعمل عند أهل مكة على قراريط، فجاء رسولا منهم، من داخلهم، ومن خلال معاناتهم، وظروفهم، وواقعهم، فأدرك مشكلات الناس، فأصبح مؤهلا لمنحة النبوة: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) ،
ليكون النبي، المنقذ، وأنموذج التغيير، ومحل الاقتداء والتأسي على الزمن،
قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) .
وكانت حياته المستمرة انتصارا للفقراء والمساكين، ودعاؤه الدائب: ( اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين ) (صحيح، رواه ابن ماجه ، والطبراني ) فهو إلى جانب هـموم الناس، من الفقراء والمساكين، وفي صفوفهم حياة، وموتا، وحشرا.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة، التاسع والأربعون: (الإسلام وهموم الناس) ، للأستاذ أحمد عبادي ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي بمقاصد الدين، واسترداد المعاني الغائبة في العلم والعمل، وإعادة تشكيل المسلم المعاصر، الذي يثير الاقتداء، ويستشعر مسئوليته الكاملة، تجاه نفسه، وأمته، والإنسانية جمعاء، ومحاولة اكتشاف مواطن [ ص: 10 ] الخلل والإصابات التي لحقت بالأمة، ودراسة أسبابها، ومعالجتها وفق السنن والقوانين الإلهية، في الأنفس والآفاق، وترميم آثارها في النفس والمجتمع، والمشاركة في تجديد أمر الدين، والعودة بالتدين إلى المنابع الأصلية، في الكتاب والسنة، ونفي البدع ونوابت السوء، والاعتصام بالكتاب والسنة، حماية للتدين من تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين، استجابة لتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم ، بقوله: ( يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) (رواه البيهقي ) .
ولعل من أهم ما تميزت به النبوة تاريخيا، عن الأفكار والنظريات والفلسفات الوضعية أنها إيمان وعمل، فكل وفعل، نظرية وتطبيق، شعارات وشعائر، إضافة إلى أنها توفرت على القضية الأولى والأهم، وهي استرداد إنسانية الإنسان، وإخراجه من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان الوضعية، إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما لخصها ربعي بن عامر ، رضي الله عنه ، ونسخ تحكم الطواغيت والظلمة، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإعلان المساواة الإنسانية، وتقرير وحدة الجنس البشري، وتحطيم فوارق اللون والعرق والجنس، وسائر الفوارق القسرية والدعوات التعصبية، وجعل ميزان الكرامة: التقوى والعمل الصالح.. ذلك أن التقوى أمر كسبي وفرصة متكافئة، الارتقاء إليها بمقدور الناس جميعا.. فلا عجب إن كانت قضية التحرير، واسترداد إنسانية الإنسان، وتحقيق توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، هـي القضية الأولى، والأمر المحوري، الذي دارت عليه النبوة، واستغرق معظم جهودها وجهدها، زمانا ومكانا، وسلطانا وبرهانا، لأن ذلك كان ولا يزال يشكل نقطة الانطلاق في استرداد الإنسان، محل الدعوة، وتخليصه من العبودية لغير [ ص: 11 ] الله، كما أسلفنا، وتحضيره وتأهيله، والقضاء على قابليات الذل والهوان، حتى يصبح بشرا، سويا، مكرما، مؤهلا لحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. فما قيمة أن يكسب الإنسان متاع الدنيا، ويخسر نفسه، ومصيره؟!
لذلك بالإمكان القول: إن موضوع النبوة ومحلها، وسبب جهادها، تاريخيا، كان الإنسان، وهموم الإنسان، وقضايا الإنسان، ومصير الإنسان، وتحرير الإنسان من العبودية البشرية، والارتقاء به إلى عبادة الله، وكانت غاية الدين: إقامة الحياة الطيبة، أي أن الدين للحياة، في المعاش والمعاد،
قال تعالى: ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) ( النحل:97) .
وكان الإعراض عن الدين، سقوط لإنسانية الإنسان، وعمى في البصيرة، ودخول في حياة الضنك،
قال تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) ( طه:124) ،
فهو مطموس البصيرة في الدنيا، وأعمى البصر في الحشر والمعاد.
من هـنا نقول: إن دعوات، ومحاولات، عزل الدين عن الحياة، وإبعاده عن هـموم الناس، والعدول عن أحكامه، وجعله شأنا شخصيا، وأمرا فرديا مجاله ضمير الإنسان بعيدا عن مسالكه وممارساته، هـو تدمير لشخصية الإنسان، وانشطار بين فكره وقناعاته، وواقعه الذي لا ينتمي إلى هـذه القناعات بصلة، بحيث يستمر إنسانا مأزوما، عدوانيا.
إن دعوات عزل الدين عن الحياة، وهموم الناس، ومعالجة مشكلاتهم، [ ص: 12 ] والانتصار إلى قضاياهم، هـي مؤامرة كبرى على الإنسان نفسه، وعودة إلى تسليط الإنسان على الإنسان، والتمكين لعبودية البشر، ذلك أن الإنسان هـو المخلوق المتدين، كما يرى علماء الاجتماع، فلا إنسان بلا دين، والذي لا يدين دين الحق، فسوف يقع بأديان باطلة.. والذين يحاربون الدين، ويحاولون عزله عن الحياة، بعد أن عجزوا عن استئصاله من الفطرة البشرية، إنما يحاربونه، ليقيموا من أنفسهم آلهه، ويضعوا للناس تشاريع، وأديان، تمكنهم من التسلط، واستلاب إنسانية الإنسان.
والذين يفهمون التدين على أنه انسحاب من الحياة، وابتعاد عن هـموم الناسن ومعالجة مشكلاتهم وقضاياهم، والذين يعيشون في المقابر، بدل الحوار والمدن والحياة، ويئولون الدين تأويلات جاهلة، تؤدي إلى العطالة والانسحاب، فإن فهم بحاجة إلى المراجعة والتصحيح.. والذين يفهمون أن غاية ما في التدين، هـو أداء الصلاة، والصيام، والحج.. الخ، بعيدا عن المساهمة في قضاء حاجات الناس، ومعالجة مشكلاتهم، ومجاهدة الظلمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن فهمهم بحاجة أيضا إلى إعادة المراجعة والتقويم.. ولو صاموا، وصلوا، وحجوا، وزكوا، يبقى إيمانهم منقوصا.
وقد تكون المشكلة، كل المشكلة، بفهمهم، وظنهم، أن هـذه هـي صورة وحقيقة التدين المطلوب، بعيدا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفهم خير القرون، وممارساتهم، ولا يكتفون بهذا الفهم المعوج، وإنما يستدلون على صواب تدينهم، بسلامتهم من الأذى والمشكلات، وبعدهم عن أن تنالهم يد الظلمة، وتقع بهم الفتنة، دون أن يدروا أن الذي ينسحب من الحياة، ويخرج من الحاضر والمستقبل، هـو إنسان خارج الاجتهاد والعقل والتفكير، [ ص: 13 ] لا يخطئ ولا يصيب أيضا، فهو يساوي العدم، لأنه يلغي نفسه، ودوره، ورسالته، ويعيش في المقابر، لكن من وقف التنفيذ، أي وقف الدفن، ودليل ذلك أن بعضهم يستغيث ويتوسل بالأموات، ويلتحق بهم، لأنه لا يحاسب على ذلك، بل يظن أنهم، وهم الأموات، أكبر قدرة منه على قضاء حاجاته، ومعالجة مشكلاته. وهذا الرصيد السلبي من المتدينين، قد يحقر الإنسان صلاته أمام صلاتهم، وحجه أمام حجهم، وصومه أمام صومهم.
وهذا الظواهر السلبية الخطيرة، في الانسحاب من الدنيا، والخروج من حمل هـم الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا أدري كيف تنسجم مع الإسلام، الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لتقويم مسيرة الحياة، مدافعة الظلم والظالمين، حتى لو كلف ذلك الإنسان عنقه، إذا كانت المدافعة منضبطة بالضوابط الشرعية، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول: ( سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إل إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله ) (حديث حسن، رواه الحاكم من حديث جابر ) ؟! فليست الغاية هـنا القتل، وإنما يصبح القتل غاية بحد ذاته، في مرحلة معينة، عندما يحقق يقظة أمة، وفضح الظلم والظالمين
هذه الظواهر السلبية، من انتقاص في التدين، وانحسار في الفهم، وغياب في الفقه، وإدراك وظيفة الدين في الحياة، ليست جديدة، ولا مبتكرة، فهي موجودة ومستمرة، لكنها تضيق وتتسع، بحسب درجة الوعي الإسلامي.. وهي في النهاية، لون من العلمنة الذاتية للإسلام، أي علمنة الإسلام على يد أهله، وعله عن الحياة وتقويمها بقيم الإسلام، [ ص: 14 ] ليصبح شأنا فرديا، وعلاقة بين الفرد وربه، بعيدا عن هـموم الناس..وهذا مبتغى الظلمة، ومحل تشجيعهم وإطرائهم.
وقد لاحظ عبد الله بن المبارك - من تابعي التابعين- العالم، العامل، المجاهد، رحمه الله، هـذه الإصابات المبكرة، فلخص حالة التدين، وعوج الفهم الذي بدأ يتسلل إلى المسلمين، ويؤدي إلى انتفاض الإسلام، بقوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت، لا يكذب
إنه فقه التذلل والخنوع، وعبادة الذل والخضوع أيضا، بعيدا عن قوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) ( التوبة:41) ،
وقوله تعالى: ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) ( طه: 24) ..
وهذا بلا شك لون من الغزو الثقافي في المجال الديني، حيث [ ص: 15 ] أصبح ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، بعيدا عن قوله تعالى : ( ولله ملك السماوات والأرض ) (آل عمران: 189)
ولا شك أن هـذا اللون من التدين، يرعاه الظلمة، كما أسلفنا، ويشجعه سدنة الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، ويروجون له، ويمتدحونه، ويعتبرونه معيارا للتدين السليم، ويصورون ما وراءه من المجاهدة والمدافعة، نوعا من المغالاة، واستغلال الدين وتسييسهن حيث يغيب العلماء العدول العاملون، الذين يحملون العلم الشرعي، وتنشأ طبقة علماء السوء، الذين يدافعون عن الاستبداد، ويتصيدون له المبررات.
ولا بد من الاعتراف، أننا نعيش اليوم مرحلة جديدة من قراءة الإسلام، بأبجدية علمانية، ولئن كانت في الماضي، تأتي من الخارج الإسلامي، فتشكل تحديا، واستفزازا، يستنفر الأمة، ويجمع طاقاتها، ويقضي على الجوانب الرخوة في حياتها، ويعيد حصانتها، ويجدد شبابها، فهي اليوم، تأتي من الداخل الإسلامي، وتسلل على يد طبقات من المخرفين، والصوفية المنحرفة، والمرجئين الجدد، بعيدا عن أية مسئولية تجاه الأمة، فتستوعب هـذه الصور من التدين، وتغري السذج والبسطاء، الذين يخادعون أنفسهم بهذا اللون من التدين الخادع، والاطمئنان الكاذب، البعيد عن أية تبعة، أو على يد مجموعة من فقهاء العصر، أصحاب العقل المستنير!! الذي يحاولون تقطيع الرؤية الإسلامية، والانتقاء منها، ومحاصرتها في أسباب النزول، من حيث الزمان والمكان، واستخدام بعض الآيات والأحاديث، وعلى رأسها، قول الرسول صلى الله عليه وسلم
: ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) (رواه مسلم عن أنس وعائشة ) ، للتفريق بين الدين، وتعاليمه وعباداته، والدنيا وتشريعاتها وعلاقاتها... بعيدا عن البيان النبوي، وفهم خير القرون، وبذلك يفرقون بين الرسول النبي صلى الله عليه وسلم
، الواجب الإتباع، والرسول الحاكم المجتهد الذي [ ص: 16 ] يخطئ ويصيب، ويقررون أن لا علاقة للوحي باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
كحاكم، لذلك فلا بأس أن يقيم الإنسان الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، في ممارساته الفردية، ومسالكه الشخصية، أما في مجال الحكم والمجتمع، ومعالجة هـموم الناس، فليس مطلوبا منه شرعا الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم !!
وليس ذلك فقط، حتى في مفهوم العبادة الخاص، يحاولون تقسيم السنن إلى سنة عادة، غير واجبة الإتباع، وسنة عبادة، واجبة الإتباع، أما الضوابط لهذا التمييز، فهي الأمزجة الشخصية، وما يتوهم من المصالح، وليس المناهج والضوابط الشرعية.
وهنا قضية تكاد تكون أصبحت من المسلمات، وهي أن إلغاء النزوع إلى الدين، وتبديل خلق الله، ومحاولة اقتلاع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها،
قال تعالى : ( لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (الروم:30) ،
بات أمرا مستحيلا، لمن يستقرئ التاريخ، ويقرأ الواقع، على الرغم من كل الممارسات، التي لا تزال مستمرة.. وما سقوط الاتحاد السوفيتي بأيدلوجياته وفلسفاته، وعودة الإنسان إلى فطرته، التي فطره الله عليها، إلا دليل على أنه لا إنسان بلا دين.
فإذا كانت محاولات إلغاء الدين قد أخفقت، وباءت بالفشل، فلا بد من التحول إلى صناعة لون من التدين، يشبع نزوع الناس، ويخدرهم، ويشيع بينهم نوعا من الاطمئنان الكاذب، دون أن يكون له أي أثر تغييري، أو إيجابي، في حياة الناس، وتقويم سلوكهم بشرع الله.. وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفسر تطور الطروحات العلمانية ، التي كانت تقوم على مناقضة الدين وإلغائه أصلا، فتحولت اليوم إلى دعوة لتحييده، وإبعاده عن حكم المجتمع وجعله شأنا شخصيا، وليس لإلغائه. [ ص: 17 ]
ولعل من الصور الخطيرة، والبدع الفكرية، التي بدأت تتسلل إلى العقل المسلم، تحت شعارات وعناوين براقة- ولكل بدعة بريقها الخادع- لتخرجه من الساحة، ولتطفئ فاعليته، وتفرغها في أوعية نظرية، بعيدة عن هـموم الناس، ومعالجة مشكلات الأمة، واستشعار المسئولية، محاولات إدخال المسلم بدهاليز الفلسفة الفكرية والنظريات المعرفية، تحت عناوين: إصلاح مناهج الفكر! وهي في الحقيقة إفساد للفكر ومناهجه، على حساب مشكلات الأمة الحقيقة والملحة.. إنه الهروب من مقتضيات العقيدة وتبعاتها، إلى دهاليز الفلسفة وغيبوبتها وبرودها، والتحلل من كل الضوابط الشرعية، واحتضان كل أصحاب الأفكار الشاذة، وتمكينهم من المنابر الإسلامية، لاغتيال العمل الإسلامي الجاد.
وقضية أخرى، يمكن أن تقع في الصميم من هـموم الناس، ومشكلاتهم، وقضاياهم، وتقويم مسالكهم بشرع الله، وهي قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، أو الدعوة إلى تطبيق الشريعة، والجدل الكلامي، الذي يدور حول ذلك، واللجان المشكلة، من سنوات، لتحضير المجتمع، لتطبيق الشريعة الإسلامية، وإشفاق بعض الكتاب (الإسلاميين!) - إن صح التعبير- على دعاة تطبيق الشريعة، وحزنهم على عقولهم الساذجة، الداعية لذلك، واتهامهم بأنهم يمتلكون الدين، ويفتقدون العقل، ووصمهم بقلة الفقه، والعجز عن فهم الواقع، والدراية بتعقيداته ومشكلاته المعقدة، وأن المجتمع لما يهيأ بعد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الناس ما يزالون في حاجة لما يهيأ بعد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الناس ما يزالون في حاجة وعوز، وخوف واضطراب، فكيف يطبق عليهم حد السرقة، وغير ذلك؟! وكأن الاجتهاد في العدول عن تطبيق الحد، في حالة الشدة، أمر خارج عن التطبيق الشرعي، والدعوة إلى التأني، وتحضير المجتمع، والتدرج، الذي أصبح يعني الوضع في الأدراج!! ولا أدري من أين دخلت علينا هـذه المفهومات؟! [ ص: 18 ]
فالعدول عن تطبيق الحدود، لوجود المجاعة، وتطبيقها في حالة الكفاية، هـو تطيق للشريعة أيضا، وليس أمرا آخر، وكأن الشريعة في نظر هـؤلاء الكتاب (الإسلاميين!) لا تساهم ببناء المجتمع الإسلامي وإقامته، وتقويم مسالكه بشرع الله، أو كأن تطبيق الشريعة لا علاقة له بتربية المجتمع، على القيم الإسلامية، والمساهمة بضبط مسيرته، ومعالجة مشكلاته!! وما قيمة التشريعات الإسلامية، إذا لم تساهم بارتقاء المجتمع، وإقامته، وبقيت معطلة محنطة، حتى نقيم المجتمع المؤهل، وفي ضوء أية تربية وشريعة نؤهل المجتمع، حتى يصبح قابلا لتطبيق الشريعة، ثم نطلب من الشريعة الإسلامية، أن تشرف لا ستلام المجتمع، الذي أصبح كل شيء فيه جاهزا؟ ولا أدري، ما هـي مقومات تجهيز المجتمع، وتأهيله بعيدا عن إقامة شرع الله؟!
ولا أرى نفسي بحاجة إلى إيراد النصوص الشرعية- وما أكثرها- التي تبين البعد النفسي، والأمني، والتربوي، والاجتماعي، والسياسي، لتطبيق الشريعة، واستنقاذ الناس من معاناتهم، وما يقع عليهم من ظلم القوانين الجائزة، التي تكرس البعد عن الإسلام، ولا تسهم بتحضير المجتمع لتطبيق الشريعة، ويكفي الإشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي أكد فيه أن: ( إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله ) ( رواه ابن ماجه عن ابن عمر ) .
لذلك أرى بأن المشكلات تزداد تفاقما، والمجتمع يزداد ابتعادا، وجنوحا، واستيلابا، كلما أقصيت الشريعة الإسلامية، أو تأخر تطبيقها، لأنها تساهم في إقامة المجتمع الإسلامي، وحمايته في الوقت نفسه، وعلى الأخص إذا عرفنا أن الشريعة لا تعني فقط العقوبات، من حدود وتعزيرات، على الرغم من الدور التربوي والبنائي، الذي لا يمكن إنكاره لهذه [ ص: 19 ] العقوبات، وإنما تعني شريعة الله الشاملة لحياة الفرد والمجتمع، والتعامل معه من خلال الحالة والاستطاعة التي هـي عليها.
ولا أدري من حيث النتيجة، ما الفرق بين من يقول: بأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لمعالجة مشكلات عصر ماض، وأنها لا تصلح للمجتمعات المعاصرة، بعد أن تطورت، وتعقدت مشكلاتها، وبين من يقول: بأن المجتمعات المعاصرة، بعد أن تطورت، وتعقدت مشكلاتها، لا تصلح لتطبيق الشريعة، إلا بعد إعادة التأهيل والتحضير؟ إذا كان الفرق أن بعض هـذه الأصوات تخرج من الداخل الإسلامي، وبعضها الآخر يأتي من الخارج الإسلامي، ليؤدي النتيجة نفسها، بحيث يلغى الإسلام، بشتى المعاذير، ويعمل على إخراجه من الحواضر إلى المقابر.
إن إقصاء الشريعة عن واقع الحياة، ومعالجة هـموم الناس، هـو – كما أسلفنا – تحييد للدين، ليصبح شأنا فرديا، بعيدا عن حكم الواقع، ووقوع في التطبيق العلماني، الذي نتنكر له نظريا، ونمارسه عمليا، حيث نكتفي بالمساحات البسيطة على هـوامش المجتمع، ويملك غيرنا قيادة المجتمع.
أما مقولة: (خذوا الإسلام جملة، أو دعوه) ، فلنا معها وقفة بسيطة، بما يتسع له المقام هـنا، وهي أنه ما لا شك فيه، أن الذي ينكر شيئا من الدين، مما توافرت له شروط وضوابط النقل الصحيح، يعتبر كافرا بالدين كله،
قال تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) (البقرة:85) ، وقال تعالى: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله [ ص: 20 ] إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة:49-50) ،
وقال تعالى: ( وتؤمنون بالكتاب كله ) (آل عمران:119) ،
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ( الأنفال:39) .
فمقولة: (خذوا الإسلام جملة، أو دعوه) إذن هـي صحيحة، ودقيقة، على مستوى الإيمان والتصور، وشمولية الرؤية، التي لا بد أن يتوفر عليها المسلم، حتى ولو لم يمتلك الاستطاعة، التي تمكنه من القيام بالتكاليف كلها، في مرحلة أو مراحل من حياته؛ لأن المسلم متعبد باستطاعته،
قال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) ،
لذلك نرى أن التزام هـذه المقولة بإطلاق، في المجال التطبيقي، يناقض استطاعة الإنسان، ويكلفه بما لا يطيق، ويناقض السنن الاجتماعية في التدرج في البناء، ويناقض مسيرة المنهج النبوي، ووضع لبناته، حتى الوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال.. لكن الذي نريد قوله: إننا ونحن نعيد البناء، في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، لا بد لنا باستمرار من استصحاب الرؤية الشاملة، ومرحلة الكمال المراد بلوغها، وعدم اعتبار ما نحن عليه، يمثل الحالة النهائية المطلوبة، ووقعنا بتقطيع الصورة الإسلامية، وتبعيضها، كما فعل أهل الكتاب، وقد حذرنا الله من الوقوع في علل تدينهم.
وقضية أخرى، لعلها تعتبر من أخطر المداخل على الإسلاميين، ودعاة تطبيق الشريعة اليوم، واعتبار هـذا التطبيق هـو العلاج الوحيد، أو الحل [ ص: 21 ] الوحيد، لحمل هـموم الناس، ومعالجة مشكلاتهم، وهي أن الإسلاميين يفتقدون البرامج التفصيلية، والمشروعات الجاهزة، لمعاجلة قضايا الأمة، في المجالات التربوية، والاقتصادية، والاجتماعية، التي يقدمونها للأمة، وإن امتلكوا المبادئ والقيم العامة، الأمر الذي يعني عجزهم، وعدم قدرتهم على حمل هـموم الناس، ومعالجة مشكلاتهم، وقيادة المجتمع إلى المقاصد الإسلامية، مما يجعل دعواهم للحل الإسلامي، نوعا من استغلال الدين، لأنهم بدل أن يفكروا بوضع البرامج المحددة والمدروسة، يقدمون للناس عبارات فضفاضة، وعموميات، لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما تعني المتاجرة بآلام الناس، دون القدرة على معالجة مشكلاتهم.. فمشكلات الناس، تعني الالتحام بهم، وتقديم برامج مدروسة، بعيدا عن إثارة العواطف، ومخاطبتهم من على المنابر فقط.
وهذا الكلام، فهي القليل من الحق، والكثير من التجني، فالحق القليل الذي فيه، أنه فعلا لا بد لدعاة الإسلام من النزول إلى المجتمع، والانخراط في قضاياه، والمساهمة بحل مشكلاته، في ضوء رؤية إسلامية، يتحقق لها فقه الحكم الشرعي، وفهم الواقع البشري، محل الحكم.. فالحضور في كل المواقع، والنفرة إلى كل الثغور، وتعلم العمل إلى جانب تعلم العلم، وتحقيق الاختصاص، له فقهه الميداني، وفوائده الفكرية والتربوية.. إنه فقه الواقع، الذي لا يغني عنه فقه النص، وإنما يدعو إليه.. ويكاد الإنسان لا يقبل بعد اليوم، القول: بأن الاقتصار على حفظ النص، وعدم الفقه بمقاصده، وتنزيله على الواقع، هـو فقه فعلا، لأن فهم الواقع من لوازم فقه النص.
لذلك، فبمجرد أن نقول للناس: إن سبب مشكلاتهم وهمومهم، هـو البعد عن الإسلام، وأن الحل الإسلامي، هـو العلاج لكل مشكلاتهم، دون أن ننزل من على المنبر، ونأخذ بأيديهم، في ضوء مناهج وبرامج مدروسة، [ ص: 22 ] للعودة للإسلام، في ضوء إمكاناتهم، أو استطاعتهم المتاحة، وظروفهم المحيطة، يصبح كلامنا دعوى بلا دليل، وكأننا نوبخ أنفسنا، ونكرر ذلك في خطبة الجمعة، كل أسبوع، وكل كتاب يصدر جديدا .. ونخشى أن نقول: إذا تأخر تقديم الخطط والبرامج، ورسم طريق العودة للإسلام، بعد الانسلاخ منه، والاكتفاء بإطلاق الشعارات، سوف يقود إلى سلبيات كثيرة، ليس أقلها إجهاض الشعار نفسه، وتراجع الإيمان، والتصديق به عمليا.
وأما الكثير، من التجني، والظلم، فهو في ادعاء خصوم الدعاة إلى الإسلام، بأن الإسلاميين يفتقدون الخطط والبرامج الإسلامية، التي يقدمونها للناس، لحمل هـمومهم، وحل مشكلاتهم.. فيمكن أن يعتبر الأمر مقبولا، نوعا ما، لو أن خصوم الإسلاميين، كانوا الأقدار والأجدر، وتقدموا للأمة ببرامج وخطط، لحل مشكلاتها، الأمر الذي يخولهم احتلال قيادة المجتمع، والمسك بزمام الأمور، بجدارة، وليس بزيف وبهتان، لكن البلاء هـنا أعظم بكثير، من الفقر بالبرامج، والمناهج؛ لأن حالهم أشبه بحال الفقير المتكبر..
إنهم يفاخرون ببرامج، ومناهج مستوردة ومنقولة من " الآخر " ، دون أن يكون لهم حتى القدرة على النظر فيها، والاختيار منها، واختيار مدى ملاءمتها للأمة، لذلك زادوا الأمة خبالا، وتخلفا فكريا، وقتلوا فيها، حتى قابلية النهوض مستقبلا- في حين استطاع الإسلاميون الاحتفاظ بقابلية النهوض على الأقل- لأن ما استوردوه من المناهج والخطط والبرامج بشكل أعمى، جاء مناقضا لمعادلة الأمة الاجتماعية، ومجافيا لروحها، وغريبا عن ثقافتها وقيمها، ومصطدما بشخصيتها الحضارية، لذلك كرس التخلف، وليس ذلك فقط، إنما أفقد الأمة القابلية، وإمكانية النهوض، وجعلها رهينة لحضارة " الآخر " . [ ص: 23 ]
وفي تقديري، أن الارتهان، الذي نعاني منه اليوم، على مختلف الأصعدة، الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والقانونية، وهذا السيل الدافق علينا من كل جانب، والذي يكاد يأتي على ثوابتنا، ويهدد هـويتنا، ويقدم البرامج لمعالجة قضايانا، ومشكلاتنا، وهمومنا – أو بتعبير آخر: يداواينا بالتي كانت هـي الداء- إنما تمدد في مجتمعنا، واحتل أمتنا، بسبب الفراغ، والعقم عن الإنتاج، وانطفاء الفاعلية، والانسحاب من المواقع الفاعلة، والابتعاد عن هـموم الناس ومشكلات المجتمع، وإخلاء المكان " للآخر " .. لقد أصبحنا أشبه بالأرض الواطئة، التي بسبب من تدنيها وانخفاضها، تصير محلا لكل ما يلقى فيها من قاذورات الأمم، وهي بطبيعتها، وخبالها الذي انتهت إليه، عاجزة عن العطاء، ومؤهلة للأخذ، وهذه سنة الله في العمران، والاجتماع البشري.
ولا شك أن هـذه الحال التي نحن عليها، لم تأت بالمصادفة، فكل شيء بقدر، ولا هـي وليدة يوم وليلة، وإنما ثمرة لمقدمات وتحضيرات، طويلة المدة، بعيدة المدى، توضعت في جسم الأمة، وأزمنت، بسبب غياب فقه أسباب السقوط والنهوض، وإصابة النخبة، والتخلي عن المسئولية، ودمار شبكة العلاقات الاجتماعية، لقد أصبحت الأمة كالغنم في الليلة الشاتية..
والحقيقة التي لا بد من ذكرها هـنا: أن هـذه الإصابات بقدر ما هـي معوقات وعقبات ثقيلة، وإصابات بالغة، تعيق النهوض، بقد ما يمكن أن تتحول لتشكل تحديات واستفزازات، تستنفر هـممم الأمة، وتجمع قواها، وتشحذ فاعليتها، وتمكنها من الإقلاع من جديد، استئنافا لدورة حضارية [ ص: 24 ] عالمية أخرى، أصبح العالم مهيأ لها، بعد سقوط إنسانية الإنسان، في حضارات التسلط، والإرهاب، والاستعمار، والعنصرية .. ذلك أن النظرة التحليلية للعالم اليوم، والتوغل في أعماقه، بعيدا عن السطوح، وفي حقائقه بعيدا عن الصور المصنوعة، تؤكد لنا أن الواقع العالمي، أصبح يتطلع للحضارة، التي تسترد إنسانية الإنسان، وتنادي بالمساواة، ووحدة الجنس البشري، وتوقف تسلط وعبودية الإنسان للإنسان.. يتطلع لحضارة إنسانية فعلا، في مبادئها، وتاريخها، وممارساتها.
ولست بحاجة إلى العودة إلى ذكر مقومات وسمات الخلود، وعوامل الإمكان المستمرة، للإقلاع الحضاري من جديد، وقد أتيت على ذكر بعض من معالمه، في تقديم لكتاب الأمة السادس والأربعين: " المستقبل للإسلام " ، لكن الذي يتامل دورات السقوط والنهوض، وتداول الأيام بني الناس، وقدرة الأمة المسلمة على النهوض، أكثر من مرة، بعد الظن أنه تودع منها، يدرك تماما مقومات النهوض، وسننه المستمدة والخالدة، التي يمتلكها هـذا الدين.
وقد تكون المشكلة، كل المشكلة اليوم، ليست بعملية إقصاء المسلمين عن دينهم، أو فصل دينهم عن حياتهم، وقد باءت تلك المحاولات – تاريخيا- جميعها بالفشل، وانقلب فيها السحر على الساحر، وليس ذلك فقط، وإنما تحولت تلك المحاولات، لتكون وسيلة تحريض، وعامل وعي، وأداة استفزاز وتحدي، واستشعرا الخطر، الأمر الذي أدى إلى العودة للذات، والتشبث بها من الاقتلاع، والاحتماء بالشخصية التاريخية الحضارية.. [ ص: 25 ] ويبقى المطلوب: كيفية الإفادة من هـذه العودة، حتى لا تبقى دفقات حماس وتوثب فقط...
وإنما المشكلة الخطيرة اليوم، هـي في قطع النصوص الشرعية عن سياقها، وتوظيفها، من خلال مناخ التخلف، وحالات الهبوط.. فبدل أن تكون الآيات والأحاديث، عامل نهوض وفاعلية، تحولت لتصبح مسوغا لحالة التخاذل، ولتوجد مشروعية للهبوط، وذلك بالتأويل الجاهل، والانتحال الباطل، والتحريف الغالي.. وبدل أن يكون الاجتهاد لإيجاد الحلول، وكيفية التعامل مع المشكلات، وتقديم برامج الحل الإسلامي، لقضايا وهموم الناس، أصبح سبيلا للعثور على التبريرات، وإيجاد الذرائع، لتكريس الواقع الظالم، والدفاع عن مشروعيته.. وبدل أن يصبح هـوانا تبعا لما جاء به الإسلام، جعلنا ما جاء به الإسلام تبعا لهوانا! والعياذ بالله! والرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هـواه تبعا لما جئت به ) ( رواه الخطيب البغدادي في تاريخه، والبغوي في شرح السنة) .
ذلك أن التدين الصحيح، هـو التكيف مع مقتضيات الدين وأحكامه، وتقويم سلوك المجتمع بها، وليس تكييف نصوص الدين، لتوافق هـوى الناس، ورغبة الظلمة المتسلطين.
نعود إلى القول: بأن النبوة بشكل عام، والنبوة الخاتمة بشكل أخص، ما جاءت إلا لإنقاذ الناس، وإلحاق الرحمة بهم، في معاشهم ومعادهم، حتى لقد اعتبر الإسلام، نفع الناس، وتحقيق مصالحهم، وتفريج كربهم، وتقديم الخير والإحسان إليهم، هـو المعيار لحب الله ورضاه: ( أحب العباد إلى الله تعال، أنفعهم لعياله ) (رواه عبد الله في زوائد الزهد، عن الحسن مرسلا، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع) .. ولم يقتصر الرفق والنفع على [ ص: 26 ] الخلق من الناس، وإنما تجاوز إلى استشعار المسئولية عن الحيوان.. ولا يتسع المجال، لإيراد الأمثلة، وحسبنا أن نذكر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ... في كل كبد رطبة أجر ) ( متفق عليه) .
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الدين المعاملة، والدين النصيحة، والبر حسن الخلق، لذلك كان التدين عطاءا مستمرا، وإيثار مستمرا، وإحسانا مستمرا، وعفوا مستمرا، وحبا مستمرا، ورحمة دائمة.. والمسلم الحق، هـو إناسن الاحتساب، الذي يبتغي بعلمه وجه الله وثوابه، ولا يربط عمله بجزاء الدنيا، ولا يحبط ويرتكس إلا لم يتحقق له الجزاء الدنيوي.. إنه إنسان الواجب، الذي لا يرى رسالته إلى في العطاء، وفي ميزانه: الأكرم هـو الأتقى، والأتقى هـو الأكرم.. الإنسان الحق، إنسان الإنتاج، لا إنسان الاستهلاك، يبذل ماله وروحه جهادا في سبيل رفع الظلم، وتحرير الإنسان.
والمسلم الحق، هـو الذي يلتصق بهموم الناس، لا يغادرها، ولا ينفصل عنها، متأسيا بالرسول القدوة صلى الله عليه وسلم ، الذي بعثه اله رسولا من مجتمعه وقومه، حتى كان لا يتميز عنهم بطعام، أو لباس، أو مجلس، أو هـيئة، ولا يترفع بمسكن، أو نفقة، نشأ فيهم، وبقي منهم، إذا جاءه السائل، لا يميزه من قومه، بل يسأل: أيكم محمد؟ وكانت وصاياه المستمرة: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ) (رواه البخاري عن عمر ) .. ( إن كنتم آنفا، تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا.. ) " (رواه النسائي وابن ماجه عن جابر ) .. ( هـون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد ) (رواه ابن ماجه والحاكم ، عن أبي مسعود البدري ) . [ ص: 27 ]
وكان التسديد من السماء، لخطوات النبوة، ودورها الفاعل في تقويم المجتمع بشرع الله، مستمرا: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) (الكهف:28)
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) ( الأنعام:52) .
وكان عليه الصلاة والسلام ، دائما الانتصار والالتصاق بالفقراء والمساكين، يعتبرهم كيان المجتمع، وأدوات إنتاجه، ووسائل حمايته، وكان يقول عليه الصلاة والسلام : ( ... هـل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟! ) (رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص ) .
إن الفقراء، عدة الإنتاج وسواعده، في السلم، وعدة الدفاع ورجاله، في الخوف والحرب، في الوقت الذي كان صلى الله عليه وسلم فيه، يعتبر أن الانفصال عن الناس، والانغماس في الرفه والترف، طريق السقوط والانقراض، ويحذر من الكبر، الذي هـو ( بطر الحق، وغمط الناس ) (رواه مسلم عن ابن مسعود ) .
وإن الفسق والبطر سبب الدمار، قال تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16) . [ ص: 28 ]
والصراع تاريخيا كان- ولا يزال- بين (الملأ) المترف، المستأثر بكل شيء، الظالم، المتسلط، وبين جمهور الناس (القوم) ، وإن النبوة كانت دائما في مواجهة مع (الملأ) ، حتى حولت الصراع والتآكل والحقد، إلى حب وتعاون وتكافل.
والأمر لم يقتصر، في الإسلام، على إيقاظ الوازع الداخلي، وتربية الضمير، وتنمية الحس بالآخرين فقط، وإنما تجاوز إلى وضع التشريعات الملزمة، لتحقيق التكافل الاجتماعي، على كل الأصعدة، التربوية، والنفسية، والمادية، والسياسية... الخ، بل لقد جعل تحقيق التكافل الاجتماعي، أحد أركان الإسلام.. فالزكاة والصدقات، والنفقات الواجبة، وتحريم الفضل في ساعات الشدة، كما قال أبو سعيد الخدري : « حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل » (رواه مسلم ) ، يدل على أن النبوة إنما بعثت في الناس، وللناس.
ولا أدري ضمن إطار أي منطلق، أو أي مفهوم للتدين، يحق لدعاة الإسلام أن ينسحبوا من الساحة، ويغادروا هـموم الناس، ولا يواجهون (الملأ) ، بالوسائل المتاحة والمشروعة، وهم يحاولون السير على قدم النبوة؟! ومن سيبقى محل دعوتهم، إذا افتقدوا (القوم) ، أو جماهير الناس؟ وما قيمة ما يحملون من قيم ومبادئ عمليا، إذا لم يحولوها إلى برامج وخطط، تنفع وتسهم بمعالجة مشكلات الناس، وتقويم سلوكهم بقيم الإسلام، وبذلك إنقاذهم، وإلحاق الرحمة بهم؟ وكيف إذا انسحبوا من المجتمع، [ ص: 29 ] ولم يتعرفوا إلى قضاياه ومشكلاته، يمكنهم أن يتعاملوا معه؟ وكيف يصدق الناس عمليا، أن الإسلام هـو الحل، ما لم نتقدم به، ونتمثله، ونقدم حلولا لمشكلات الناس، في ضوئه؟
ومع شديد الأسف، فإن الكثير من المؤسسات والجمعيات والمنظمات الدعوية الإسلامية، لسبب أو لآخر، أصبحت خارج الواقع، وخارج الحاضر، وخارج هـموم الناس ومشكلاتهم.. أصبحت تشكل أجساما منفصلة، وأهدافا خاصة منفصلة عن أهداف الأمة العامة، حتى إنها تدعي التميز عن جسم الأمة، الأمر الذي سوف يوقعها في الشراك المنصوبة لها، ويجعل منها طوائف منفصلة، ودوائر مغلقة، تعكف على خاصة نفسها، وتعجب بفكرها، ولا ترى إلا تراثها وتاريخها، مما يسهل عزلها عن ضمير الأمة، ومحاصرتها، وضربها، أو على الأقل إلغاءها.
لذلك نقول: إن محاولات إبعادها عن الأمة، وإخراجها من الساحة، ومحاصرتها بالتهم الباطلة، إنما هـي لشل حركتها، وتسهيل ضربها، بعيدا، حتى لا يحس بإصاباتها جسم الأمة.
ولعل فلسفة الانسحاب من المجتمع، ومحاولة إيجاد المشروعية، لتولية الدبر، لهذا الانسحاب من الدوائر الاجتماعية المتاحة، هـو الأخطر اليوم، حيث بدأ بعض الدعاة يتوهم أنهم، إذا انخرطوا في هـموم الناس، فسوف يقومون بوظائف الدولة، التي تتنكر للإسلام، نيابة عنها، مما يمكن أن يصبح إعانة لها، وتقوية لسلطانها، خاصة بعدما برزت صورة الدول، [ ص: 30 ] والأنظمة الشمولية، التي تتدخل في كل شيء، وتحاول امتلاك كل شيء، وتأميم كل شيء، حتى التفكير بتأميم الإنسان، لصالح النظام، وتحويل الناس إلى موظفين، وأكلة على مائدة السلطان.
وفي اعتقادي، أن ذلك كله، لا يعفي دعاة الإسلام، من حمل المسئولية، والالتصاق بهموم الناس، بل أرى أنه كلما اشتد الحال، كلما ازدادت المسئولية، وليس العكس.
أما محاولة محاصرة الدعاة الإسلاميين اليوم، بحجة أنه لا حاجة لمؤسساتهم ومنظماتهم؛ لأن المجتمع كله مسلم، فهي حجة متهافتة، متناقضة مع نصوص الكتاب والسنة، ويدفعها الواقع والممارسة.
إضافة إلى أنها يمكن أن تنسحب على المؤسسات والمنظمات الوطنية، والشعبية، والقومية، غير الإسلامية، وهذا ما لم يقل به أحد.
والعجيب الغريب في عالمنا الإسلامي، أو في بعضه على الأقل أن منطق الدولة الشمولية، انحسر وتراجع في العالم كله، وأصبح كل شيء يخضع للمنطق الليبرالي ، أو اقتصاد السوق، إن صح التعبير، المصطلح الذي بدأ يفسر الحالة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية على سواء.
وأصبح المنطق الليبرالي، وسيلة لإباحة، وحرية كل شيء، وإخضاعه للمنافسة.. لكن في المجال الإسلامي فقط، دون سواه، ما يزال يتحكم فينا عقل الأنظمة الشمولية . [ ص: 31 ]
والمخرج- والله أعلم – هـو المبادرة بالأعمال الصالحة، وتحويل الفكر إلى فعل، والشعار إلى شعيرة، والانتقال إلى مرحلة التفكير والتربية، من أجل التغيير، والعودة إلى التجديد، والاجتهاد في الميدان، وليس من وراء المكاتب وفوق المنابر، والعودة إلى الناس، محل الدعوة وميدنها، وتربته الصالحة للغرس،وامتلاك القدرة على الخروج من الحصار بالوسائل المشروعة، بعيدا عن أي تشنج، أو تعصب، أو انفلات من الضوابط الشرعية، وتقديم الإنسان الأنموذج، الذي يثير الاقتداء بعلمه وعمله وسلوكه.
وبعد:
فالكتاب الذي نقدمه اليوم، لا شك أنه يعتبر إسهامة بارزة، لم تقتصر على فتح ملف هـذه القضية الخطيرة، والاستشهاد لها من الكتاب والسنة، وسيرة خير القرون، واستدعائها إلى ساحة الاهتمام، بعد أن كادت تغيب عن فلسفة العمل الإسلامي، بميادينه المختلفة اليوم، تحت شتى الذرائع والمعاذير، وإنما استطاعت أن تخطو في الموضوع خطوات مقدورة، حيث لم يقتصر الباحث، جزاه الله خيرا، على تحديد الإصابات، وإنما حاول دراسة أسبابها المتعددة، كما حاول المساهمة بوضع المقترحات النافعة، والمعالم البارزة على الطريق الطويل.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 32 ]