الأول : الاسـتبداد
الاستبداد، نتيجة، وسبب، في آن واحد، فالانحراف عن جادة العدل، وتخلي المسلمين عن عزتهم، وتكافلهم، وتعاضدهم، يورثه، وهو يتسبب في عرقلة الأمة، عن السعي نحو الانعتاق، وطلب المعالي، والانطلاق، إذ يحيلها أمة متشاكسة، يثقل بعضها بعضا، عن كل محاولة، لارتياد آفاق العزة، والسؤدد، فـ (الاستبداد، داء الأمة الدفين، كما سماه عبد الرحمن الكواكبي، منذ قرن، حين كتب كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) ، إذ هـو داء يحرم الأمة الإفادة،من مختلف قدراتها، وطاقاتها، ويختزلها في فرد، أو في مجموعة، عوض أن تكون خلية نابضة بالحياة، يتعاون، ويتكافل، كل أفرادها، ويعرف كل منهم [ ص: 118 ] وظيفته، ويقوم بها، ويتحمل مسئوليته، وينصح لأمته، ما وسعه النصح.. فالأمة الناجحة، هـي التي تعرف كيف تفيد، من كل إمكاناتها، وتوفق إلى إفراز آليات، تنظم ذلك وتضبطه.
الاستبداد هـو إلغاء الآخر، وتقليص كيانه، في ذات، لا تملك إلا أن تطيـع، وتتبـع: ( قـال فرعـون ما أريـكم إلا ما أرى وما أهـديـكم إلا سبيل الرشاد ) (غـافر:29) ،
مما يحبس دفق الشهود الحضاري، عن الوصول، إلى كل أوصال الأمة، ويرفع عن الآراء، نعمة التشاحذ والتبارد والتهاذب، وهي بوتقة تنصهر فيها الآراء، ليبرز إبريزها، وينفى زبدها، فتتسم الحياة بالركود والجمود، تبعا لذلك، لأن الإنسان يجرد من أهم خصائص إنسانيته، وهي المسئولية، ويتسحيل كائنا تنفيذيا ذليلا، شأن الأنعام.
المستبد يرى الآخرين أقل منه شأنا، ودرجة، ووعيا، إما بدافع سيادة وتأله، أو بدافع غيرة وأبوة، النتيجة على كل حال واحدة، إذ ينتج عن الدافعين معا، نوع إحساس بالاستغناء، عن الآخرين، ونصحهم، ومشورتهم، وتجاهل لإرادتهم، وطموحهم، وهذا شعور، يشكل المدخل الأوسع إلى الطغيان،
يقول الله عز وجل : ( كـلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه اسـتغنى ) (العلق:6-7) .
قد يكون هـدف المستبد في منطقة نبيلا، ولكنه يفقد نبله بالممارسة القاتلة، التي تصاحب عملية تحقيقه، كمن يقتل مريضه وهو يغالبه ليسقيه الدواء، وهذه أبهى صور الاستبداد!!
الاستبداد اليوم، داء ينخر كيان أمتنا، في كل المستويات، قد [ ص: 119 ] امتزجت به كل ذرة من ذراتها، فما من خيط من خيوط شبكة العلاقات الاجتماعية -على حد تعبير ابن نبي ، رحمه الله- إلا وهو منصبغ بالاستبداد، الزوج مع زوجته، والأب والأم مع أبنائهما، والذكور مع الإناث، والكبير مع الصغير، والغني مع الفقير، والمدير المستخدم مع الأجير المستخدم، والحاكم مع المحكوم، والرئيس مع المرءوس، والقديم مع الجديد، والقوي مع الضعيف، والشريف مع المتواضع النسب، والمعلم مع المتعلم.. مما لو ذهبنا نتتبع تفصيلاته، فلن نفرغ من قريب.
ومن هـنا كان حصر الاستبداد، في الحكام فقط، خطأ كبيرا في التشخيص؛ لأنه ليس موجودا فقط، في حكوماتنا، بمختلف وزاراتها، أو في الأجهزة القضائية، والأخرى التنفيذية، بل هـو موجود في معاملنا، ومتاجرنا، ومراكزنا الثقافية، وشوارعنا، والأدهى، والأمر، من هـذا كله، الاستبداد موجود -وكما قلنا- في بيوتنا! وإنما الاستبداد في الحكام، يكون له بالغ الأثر، لأنهم محل قدوة من جهة، ولأنهم يملكون وسائل ممارسة الاستبداد، وإخراجه من مكامن النفوس، إلى مظاهر الواقع، من جهة ثانية، وإلا فالاستبداد، لا يمضي في أمة، إلا إذا تحول إلى قيمة مجتمعية، وكان في النفوس قابلية له، من فسق ودنية وغيرهما، قال تعالى حكاية عن فرعون مع قومه: ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:54) .
وقد راجت في الأمة مفاهيم، أحدثت القابلية للاستبداد، في أذهان المسلمين، فاستتب هـذا الداء بالتالي، في واقعنا، بحيث (وجد لديهم [ ص: 120 ] تراث فكري، وثقافي، غير قليل، يؤصل لهذه الانحرافات، ويحدد أو يصادر الحريات... ولعل بعض هـذا التراث، ما أدرج تحت (سد الذرائع) ، (والأخذ بالأحوط) ، فلطالما أساء الناس فهم هـاتين القاعدتين، أو الأصلين، وما أكثر ما أساء فقهاء الطغاة بخاصة، استخدامهما، بعد أن نقلوهما، من إطارهما، وميدانهما الفقهي الخاص) [1] ، إلى المجال الحياتي الأوسع، ليبركوا بكلكل قوة الطغاة، على عقول المسلمين، فيمنعوها من أن تبدع، وعلى ألسنتهم، فيحبسوها من أن تجهر بالحق، ويوثقوا أيديهم، من أن تجاهد.
ومن منطلق: (سد ذرائع الفتنة) ، أو (سد ذرائع الفرقة) ، منحت الشرعية لإمامة المتغلب، وأصبحت إمامة أهل الجور، والجبر، مشروعة أيضا، وأحكامهم نافذة، منذ وقت مبكر في تاريخنا، لتتهيأ الأمة، لقبول أحكام انقلابات العساكر والشرط... ولم ينكر إلا القليل من صالح العلماء، وبأصوات خافتة، غير مسموعة -إلا نادرا- هـذه الأحوال..
وتحت سيف وسلطان (سد الذرائع) ، و (الأخذ بالأحوط) ، عاشت أمتنا، في ظل قوانين طارئة دائمة، فعطلت قواعد نظامها السياسي، منذ الانقلاب، على الخلافة الراشدة... ولم يسلم النظام القضائي، من محاولات الطغاة، إساءة استعماله، والانحراف به... الاستبداد، والظلم، والطغيان، الذي مارسه، هـؤلاء المتغلبون، قديما وحديثا، قد فرق كلمة [ ص: 121 ] الأمة، ومزق وحدتها، وحولها إلى فرق، يتقاسمها الطغاة، ليضربوا بعضها ببعض، وهكذا أدى الاستبداد، وحرمان الناس من حق الرأي، والتفكير، والتعبير عنه، إلى هـدم سائر مقومات الأمة، والقضاء عليها) [2] هذا من الناحية السياسية، ومن الناحية العلمية الثقافية، فقد راجت أيضا، مفاهيم أدت إلى شيوع الاستبداد العلمي، ولندع أبا الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ، يتحدث عنها، حديث مستبصر، إذ يقول رحمه الله: (وقد لبس إبليس، على أقوام، من المحكمين، في العلم والعمل... فحسن لهم الكبر بالعلم، والحسد للنظير، والرياء بطلب الرئاسة، فتارة يريهم، أن هـذا كالحق الواجب لهم، وتارة يقوي، حب ذلك عندهم وقد يدخل إبليس على هـؤلاء، بشبهة ظريفة، فيقول: طلبكم للرفعة ليس بتكبر، لأنكم نواب الشرع، فإنكم تطلبون إعزاز الدين، ودحض أهل البدع، وإطلاقكم اللسان في الحساد، غضب للشرع، إذ الحساد، قد ذموا من قام به... وكشف هـذا التلبيس، أنه لو تكبر متكبر، على غيرهم، من جنسهم، وصعد في المجلس فوقه، أو قال حاسد عنه شيئا، لم يغضب ذلك العالم لهذا، كغضبه لنفسه، وإن كان المذكور من (نواب الشرع) ، فعلم، أنه إنما يغضب لنفسه لا للعلم ) [3] [ ص: 122 ]
ثم قال ابن الجوزي : (وعلاج هـذا -لمن وفق- إدمان النظر، في إثم الكبر، والحسد، والرياء، وإعلام النفس، أن العلم لا يدفع شر هـذه المكتسبات، بل يضاعف عذابها، بتضاعف الحجة بها، ومن نظر في سير السلف، من العلماء العاملين، استقل نفسه، فلم يتكبر، ومن عرف الله لم يراء، ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته، لم يحسد ) [4] .. فنشأت بناء على ما مر، فـرق، ينتصر كل منها لرأيه، ويهاجم المخالفين، بل، وقد يحض على قتلهم، كما حدث في فتنة خلق القرآن.. وبما أن عموم الناس، تبع لحكامهم، وعلمائهم، فقد تفرقت الأمة سياسيا، وعلميا، من جراء أخلاقيات الحكام والعلماء، السابقة الذكر.
وقد التفت مالك بن نبي -رحمه الله- إلى هـذه المسألة التفاتة لوذعية، فنص ضمن كتابه: (ميلاد مجتمع) ، في فصل سماه: (المرض الاجتماعي) ، على كون تفشي الاستبداد، نذيرا بهلاك الأمم، وذهاب ريحها، فقال: (قبل أن يتحلل المجتمع، تحللا كليا، يحتل المرض جسده الاجتماعي، في هـيئة انفصالات، في شبكة علاقاته الاجتماعية... وهذه هـي مرحلة التحلل البطيء، الذي يسري في الجسد الاجتماعي، بيد أن جميع أسباب هـذا التحلل، كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هـذا المرض الاجتماعي، في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده، يتمثل في ما يصيب (الأنا) عند الفرد، من (تضخم) ، ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي، لصالح الفردية، عندما يختفي [ ص: 123 ] (الشخص) ، أو خاصة عندما يسترد (الفرد) استقلاله، وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي .
فالعلاقات الاجتماعية، تكون فاسدة، حينما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا، أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ، لا لإيجاد حل للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين.
في حالة الصحة، يكون تناول المشكلات، من أجل علاجها هـي، أما في الحالة المرضية، فإن تناولها، يصبح فرصة لتورم (الذات) ، وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا لفقر في الأفكار، أو الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات، لم تعد أمورها تجري على طبيعتها) [5] وقد أثبت التاريخ، أن الذوات، لا تصاب بالتضخم، في المجتمعات، فيشيع الاستبداد، إلا حين تغفل عن المشروع، الذي نشأت من أجل تحقيقه، أو تفقد الإيمان به، ومعلوم أن عجينة المجتمعات الأصلية، وتركيبتها، تكون استجابة لمقتضيات، تحقيق المشروع المنطلق، وكل ابتعاد عن هـذه الاستجابة، نذير بانتهاء المجتمعات المعنية.. فحين فقد السوفيات الإيمان بمشروعهم، انحسر مد السعي، من أجل تحقيقه، وترهلت شبكة العلاقات الاجتماعية، وانتصرت الفردية، فذهبت ريح المجتمع السوفياتي. [ ص: 124 ]
هذا نموذج فقدان الإيمان، وأما نموذج الغفلة، فمتمثل في المجتمع الإسلامي، فقد تضخمت الذوات، وتفشى الاستبداد، حين تمت الغفلة عن المشروع، الذي ولد المجتمع الإسلامي، من أجل تحقيقه.
حين الإيمان بالمشروع، والالتحام به، تذوب الذوات في بعضها، ويصبح الإنسان شخصا له شخوص حضاري، ولا يبقى مجرد فرد، له متطلباته الجثمانية، فحسب، فينصهر في المجتمع، دون أن تضيع خصوصياته، ولا حقوقه، ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه ) [6] ، فتلتحم الذوات ببعضها، وتعمل، بتعاضد، من أجل رفع بناء المشروع الحضاري الإسلامي في الأرض، ليكون الدين كله لله، لأن مفهوم التضحية، يولد بعد أن يتضح القصد، وهو مرضاة الله، وتعلم حقيقة هـذه الحـياة، وأنها مجـرد معبر إلى الآخرة، فهي لا تعدو كونها مجال امتحان وابتلاء: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) ،
وأن الدار الآخرة، لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون، وهي دار لا تكون، إلا للذين لايستبدون، ولا تتـورم، أو تتضخم ذواتهم،على حساب الآخرين،
قال تعالى: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83) . [ ص: 125 ]
ولخطورة هـذا الداء، على حياة الأمم، فقد حاربه الإسلام، فضلا عن كون المنهج، الذي يبني به المجتمعات، رافضا في أساسه للاستبداد والتسلط.. وهذه الحرب، كانت من زاويتين: زاوية التأصيل العقيدي، وزاوية التشريع العملي، قصد إعطاء الأمة كرامتها.
أما من زاوية التأصيل العقيدي، فقد حمل القرآن الكريم، على الطغاة والمستبدين،
فقال تعالى: ( كـذلك يطبع الله على كل قلب متكـبر جبار ) (غـافر : 35) ،
وقـال سـبحانه: ( واستفتـحوا وخاب كل جبار عنيد ) (إبراهيم:15) ،
وحمل على الأعوان المباشرين، من كبار مثل هـامان وقارون، أو صـغار مثل جنود فرعون،
فقال تعالى: ( إن فرعـون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) (القصص:8) ،
وقال عز وجل : ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) (القصص:40) .
ومن ناحية ثالثة، حمل على الشعوب، التي تسلم قيادها للطغاة، دون أن تسألهم لم ؟ أو كيف ؟ بله أن تقول: لا، بملء فيها، فقد ذم عز وجل ، قوم نوح على لسانه،
بقوله: ( رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ) (نوح: 21) ،
قال ابن الجوزي في تفسير هـذه الآية: (قال المفسرون: المعنى أن الأتباع والفقراء، اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء ) [7] [ ص: 126 ]
وذم سبحانه قوم هـود بقوله: ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هـذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ) (هود:59-60) ،
وذم قوم فرعون، فقـال عـز من قـائـل: ( فاسـتخف قومـه فأطـاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:54) .
وعرض لنا القرآن صورا جمة من مشاهد الآخرة، وفيها يتلاوم السادة والكبراء، والمضلون وأتباعهم المضللون، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، ويحاول كل فريق، أن يلقي بالتبعات على الآخر، ولكن الله يحكم على الجميع، بأنهم من أهل النار: ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبـيرا ) (الأحزاب:66-68) ،
( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) (البقرة:166-167) [8]