2- في سرية ذات السلاسل [1] .
كانت هـذه السرية في شهر جمادى الآخرة، من السنة الثامنة الهجرية [2] ، وكان سبب إرسال هـذه السرية، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغه أن جمعا من بلي ، وقضاعة ، قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص ، فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار ، في ثلاثمائة مجاهد، وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب، وهي بلاد بلي وعذرة وبلقين ، وذلك أن عمرو بن العاص، كان ذا رحم بهم، إذ كانت أم العاص بن وائل بلوية، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يتألفهم بعمرو. وسار عمرو، وكان يكمن النهار، ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرسا، [ ص: 70 ] فلما دنا من القوم، بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فنزل قريبا منهم عشاء وهم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا -وهي أرض باردة- فمنعهم عمرو ، فشق ذلك عليهم، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: (أمرت أن تسمع لي وتطيع!) قال: (فأفعل) .
وبعث عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رافع بن مكيث الجهني [3] ، يخبره، أن لهم جمعا كثيرا، ويستمده بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح [4] ، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين - أبي بكر وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما - والأنصار ، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يلحق عمرو بن العاص، فخرج أبو عبيدة، في مائتين من المجاهدين، وأمره أن يكونا جميعا ولا يختلفا، فساروا حتى لحقوا بعمـرو. وأراد أبو عبيدة، أن يؤم الناس، ويتقدم عمرا، فقال له عمـرو: (إنما قدمت علي مـددا لي، وليـس لك أن تؤمني، وأنـا الأميـر، وإنما أرسـلك النبي صلى الله عليه وسلم إلى مددا) ، فقال المهاجرون : (كلا، بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه!) فقال عمرو: (لا، بل أنتم مدد لنا!)
ولما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان حسن الخلق، لين الشكيمة، قال: (لتطمئن يا عمرو! وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قال: إذا قدمت على صاحبك، فتطاوعا ولا تختلفا ، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك!) ، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. [ ص: 71 ]
وأصبح مجموع رجال عمرو خمسمائة مجاهد، فسار الليل والنهار، حتى وطيء بلاد بلي، ودوخها [5] ، وكلما انتهى إلى موضع، بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين ، ولقي في آخر ذلك جمعا، ليس بالكثير، فقاتلوا ساعة وتراموا بالنبل، فحمل المسلمون عليهم، فهربوا، وأعجـزوا هـربا في البلاد، وتفرقــوا، ودوخ عمرو ما هـناك. أقـام أيامـا لا يسمع لهم بجمع، ولا بمكان صاروا فيه، فكان يبعث أصحاب الخيل، فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون.
( وكان عمرو بن العاص في طريق عودته إلى المدينة ، قد احتلم في ليلة باردة، كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد والله احتلمت، وإن اغتسلت مت، فدعا بماء فتوضأ، وغسل فرجه، وتيمم، ثم قام فصلى بهم. ولما قدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم ، سأله عن صلاته، فقال: والذي بعثك بالحق، لو اغتسلت لمت، ولم أجد قط بردا مثله، وقد قال الله: ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) (النساء:29) ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شيئا ) [6] . [ ص: 72 ]
ولما هـزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم، فحال عمرو بينهم وبين ما يريدون. ثم أرادوا أن يوقدوا نارا، يصطلون عليها من البرد -كما ذكرنا- فمنعهم عمرو من ذلك أيضا، فشق على المسلمين هـذا المنع، ولم يحتملوا تلك الشدة التي تصل إلى التهديد، بقذف من يوقد النار فيها، فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه في ذلك، فقال له عمرو: (كرهت أن آذن لهم، أن يوقدوا نارا، فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد) ، فأعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيما إعجاب، وحمد له رأيه [7] ، كما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده بالتيمم، مع وجود الماء، خوف الضرر [8] .
وحين علم النبي صلى الله عليه وسلم بما كان بين أبي عبيدة، وعمرو من اختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح [9] ، تقديرا لموقف أبي عبيدة السليم، وتصرفه الحكيم.
وقد أثبت عمرو في هـذه السرية، أنه قائد مكيث غير متهور، متين الضبط، قوي الشخصية، يهتم بأمن رجاله كثيرا، فهو يقاتل بسيفه، كما يقاتل بعقله، بمهارة فائقة، لهذا استطاع تحقيق نتائج باهرة في سريته، فنال إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره. [ ص: 73 ]